تداعيات تاريخية الحزب الشيوعي وانقلاب 25 مايو....
صفحة 1 من اصل 1
تداعيات تاريخية الحزب الشيوعي وانقلاب 25 مايو....
د/ محمد سعيد القدال :
لعل من أشق الأمور على الدارس أن يكتب عن أحداث عاشها وتفاعل معها مدا وجزرا. ولكن انقلاب مايو مضى عليه 38 عاما، مما قد يسمح بهامش محدود لتناول الأشهر الأولى من عمر الانقلاب.
وتثير علاقة الحزب الشيوعي بانقلاب مايو جدلا مازالت ذيوله تمتد إلى يومنا هذا. وتذهب بعض الأقلام إلى وصف الانقلاب بأنه من تدبير الشيوعيين. فيقول د.عبد الرحيم عمر في كتابه: "الترابي والإنقاذ: صراع الهوية والهوى" ما يلي: "في صبيحة 25 مايو 1969 تنفس الشيوعيون الصعداء وخرجوا من مخابئهم ليقودوا ويوجهوا يرنامج الثورة الفتية" (ص14). من الواضح أن المؤلف يكتب على هواه. فلم يكن الحزب الشيوعي يعمل تحت الأرض، بل كان له نائبان في البرلمان أحدهما سكرتيره العام. فأي مخابئ هذه التي يتحدث عنها. ولعله ما كان بحاجة إلى افتعال هذه الدراما لولا أنه يريد أن يلصق بالحزب تهمة الانقلاب، وكأنما القيام بانقلاب سبة،عجبي!!. ثم يقول: "كان الشيوعيون يدركون أن الحركة الإسلامية بقيادة د. الترابي هي المحرض الرئيسي على حل حزبهم" ثم يتحدث عن ندوة معهد المعلمين العالي وينتهي قائلا: "ونتيجة لذلك الوسط المفعم بالإثارة والكراهية للحزب الشيوعي تم حله وطرد نوابه من البرلمان: (المصدر السابق). يبدو أننا أمام هستيريا سياسية وأمام ألفاظ لا تصلح إلا للخطب في الحلقات الحزبية المغلقة. فالحديث عن الكراهية ضد حزب اكتسح انتخابات الخريجين قبل أشهر خلت مدعاة للتعجب. كما أن تضخيم دور الحركة الإسلامية مدعاة لتعجب أكثر. فالحركة الإسلامية لم تكن وقتها ذات شأن يمكنها من حل الحزب الشيوعي، قبل التمكين الذي وفره لها نظام مايو منذ 1977. إن معركة حل الحزب الشيوعي قادها الحزبان الكبيران وكانت جبهة الميثاق تسير في ذيلهم. وكان حل الحزب الشيوعي مسرحية هزيلة ومخجلة وانتقدها بعض الذين شاركوا فيها. والبعض الآخر يشيح عنها الوجه على استحياء. وكنت أعتقد أن الزمن سوف يعيد للناس صوابهم ويدركون أن تلك المسرحية كانت طعنة نجلاء في كبد الديمقراطية، فيستوعبوا درسها بدلا من التفاخر الأجوف الذي لا طائل تحته. والكاتب غير دقيق في ذكر بعض الحقائق، وهي صفة لأغلب كتاب الجماعة الإسلامية لأنهم لا يهتمون بالتاريخ بقدر اهتمامهم بالعمل الدعائي حتى وإن كان لا يستقيم مع حقائق التاريخ. فيقول إن حل الحزب الشيوعي كان عام 1968 وهذا خطأ. ويقول إن المحكمة الدستورية برئاسة بابكر عوض الله رفضت إصرار الحكومة على رفض القرار. عليه أن يراجع المعلومات. ويقول إن الشيوعيين قاموا بفصل "أعضاء الحركة الإسلامية من هيئة أساتذة جامعة الخرطوم". ومرة أخرى عليه مراجعة معلوماته ليتأكد من الذين فصلوا ومن فصلهم بدلا من أن يلقي الحديث على عواهنه. وإذا كان فصل الأساتذة معرة فعليه أن يذكر مذبحة الفصل التي ارتكبت في جامعة الخرطوم منذ عام 1989، وعليه أن يذكر اقتحام قوات الأمن لحرم الجامعة لأول مرة في تاريخها منذ عهد الحكم البريطاني وعليه أن يذكر أشياء أخرى تناولتها في مقالات سابقة.
خلاصة القول إن بعض الكتاب يندفعون وراء العمل الدعائي الذي لا يقوم على حقائق، بينما الحقائق ساطعة وناصعة وقلم التاريخ لن يجف. ,إذا كانت الدعاية الجوفاء تجدي، لبقي هتلر في الحكم إلى يومنا هذا.
نعود للموضوع الأساسي : ما هي علاقة الحزب الشيوعي بانقلاب 25 مايو. وكنت قد نشرت كتابا عام 1986 بعنوان: الحزب الشيوعي السوداني وانقلاب 25 مايو. ونشرت فصلا في كتابي بعنوان: معالم في تاريخ الحزب الشيوعي السوداني (1999). وسوف اعتمد عليها في تناول هذه العلاقة الشائكة.
إن علاقة الحزب الشيوعي بانقلاب مايو لا تتم الإجابة عليها بلا أو نعم مثل المسألة الحسابية. فالانقلاب تداخلت فيه عوامل محلية وإقليمية وعالمية وأوضاع الأحزاب ذاتها التي كانت في الساحة السياسية، وربما أصابع أجهزة بعض المخابرات. علينا أولا أن نستعرض الوضع السياسي في البلاد قبل الانقلاب. ثم نتناول الوضع في الحزب الشيوعي في تلك الفترة، وننتهي بالعلاقة بين الحزب والانقلاب.
لعل من أشق الأمور على الدارس أن يكتب عن أحداث عاشها وتفاعل معها مدا وجزرا. ولكن انقلاب مايو مضى عليه 38 عاما، مما قد يسمح بهامش محدود لتناول الأشهر الأولى من عمر الانقلاب.
وتثير علاقة الحزب الشيوعي بانقلاب مايو جدلا مازالت ذيوله تمتد إلى يومنا هذا. وتذهب بعض الأقلام إلى وصف الانقلاب بأنه من تدبير الشيوعيين. فيقول د.عبد الرحيم عمر في كتابه: "الترابي والإنقاذ: صراع الهوية والهوى" ما يلي: "في صبيحة 25 مايو 1969 تنفس الشيوعيون الصعداء وخرجوا من مخابئهم ليقودوا ويوجهوا يرنامج الثورة الفتية" (ص14). من الواضح أن المؤلف يكتب على هواه. فلم يكن الحزب الشيوعي يعمل تحت الأرض، بل كان له نائبان في البرلمان أحدهما سكرتيره العام. فأي مخابئ هذه التي يتحدث عنها. ولعله ما كان بحاجة إلى افتعال هذه الدراما لولا أنه يريد أن يلصق بالحزب تهمة الانقلاب، وكأنما القيام بانقلاب سبة،عجبي!!. ثم يقول: "كان الشيوعيون يدركون أن الحركة الإسلامية بقيادة د. الترابي هي المحرض الرئيسي على حل حزبهم" ثم يتحدث عن ندوة معهد المعلمين العالي وينتهي قائلا: "ونتيجة لذلك الوسط المفعم بالإثارة والكراهية للحزب الشيوعي تم حله وطرد نوابه من البرلمان: (المصدر السابق). يبدو أننا أمام هستيريا سياسية وأمام ألفاظ لا تصلح إلا للخطب في الحلقات الحزبية المغلقة. فالحديث عن الكراهية ضد حزب اكتسح انتخابات الخريجين قبل أشهر خلت مدعاة للتعجب. كما أن تضخيم دور الحركة الإسلامية مدعاة لتعجب أكثر. فالحركة الإسلامية لم تكن وقتها ذات شأن يمكنها من حل الحزب الشيوعي، قبل التمكين الذي وفره لها نظام مايو منذ 1977. إن معركة حل الحزب الشيوعي قادها الحزبان الكبيران وكانت جبهة الميثاق تسير في ذيلهم. وكان حل الحزب الشيوعي مسرحية هزيلة ومخجلة وانتقدها بعض الذين شاركوا فيها. والبعض الآخر يشيح عنها الوجه على استحياء. وكنت أعتقد أن الزمن سوف يعيد للناس صوابهم ويدركون أن تلك المسرحية كانت طعنة نجلاء في كبد الديمقراطية، فيستوعبوا درسها بدلا من التفاخر الأجوف الذي لا طائل تحته. والكاتب غير دقيق في ذكر بعض الحقائق، وهي صفة لأغلب كتاب الجماعة الإسلامية لأنهم لا يهتمون بالتاريخ بقدر اهتمامهم بالعمل الدعائي حتى وإن كان لا يستقيم مع حقائق التاريخ. فيقول إن حل الحزب الشيوعي كان عام 1968 وهذا خطأ. ويقول إن المحكمة الدستورية برئاسة بابكر عوض الله رفضت إصرار الحكومة على رفض القرار. عليه أن يراجع المعلومات. ويقول إن الشيوعيين قاموا بفصل "أعضاء الحركة الإسلامية من هيئة أساتذة جامعة الخرطوم". ومرة أخرى عليه مراجعة معلوماته ليتأكد من الذين فصلوا ومن فصلهم بدلا من أن يلقي الحديث على عواهنه. وإذا كان فصل الأساتذة معرة فعليه أن يذكر مذبحة الفصل التي ارتكبت في جامعة الخرطوم منذ عام 1989، وعليه أن يذكر اقتحام قوات الأمن لحرم الجامعة لأول مرة في تاريخها منذ عهد الحكم البريطاني وعليه أن يذكر أشياء أخرى تناولتها في مقالات سابقة.
خلاصة القول إن بعض الكتاب يندفعون وراء العمل الدعائي الذي لا يقوم على حقائق، بينما الحقائق ساطعة وناصعة وقلم التاريخ لن يجف. ,إذا كانت الدعاية الجوفاء تجدي، لبقي هتلر في الحكم إلى يومنا هذا.
نعود للموضوع الأساسي : ما هي علاقة الحزب الشيوعي بانقلاب 25 مايو. وكنت قد نشرت كتابا عام 1986 بعنوان: الحزب الشيوعي السوداني وانقلاب 25 مايو. ونشرت فصلا في كتابي بعنوان: معالم في تاريخ الحزب الشيوعي السوداني (1999). وسوف اعتمد عليها في تناول هذه العلاقة الشائكة.
إن علاقة الحزب الشيوعي بانقلاب مايو لا تتم الإجابة عليها بلا أو نعم مثل المسألة الحسابية. فالانقلاب تداخلت فيه عوامل محلية وإقليمية وعالمية وأوضاع الأحزاب ذاتها التي كانت في الساحة السياسية، وربما أصابع أجهزة بعض المخابرات. علينا أولا أن نستعرض الوضع السياسي في البلاد قبل الانقلاب. ثم نتناول الوضع في الحزب الشيوعي في تلك الفترة، وننتهي بالعلاقة بين الحزب والانقلاب.
د/عبد الهادي إبراهيم- عدد الرسائل : 53
الإسم : : dozna.jeeran.com
تاريخ التسجيل : 05/08/2007
رد: تداعيات تاريخية الحزب الشيوعي وانقلاب 25 مايو....
كان الوضع السياسي يتدهور سراعا بعد ثورة أكتوبر. ذكرنا من قبل حل الحزب الشيوعي وطرد نوابه من البرلمان ثم مصادمة استقلال القضاء. فاهتزت كل الأركان الذي يقوم عليها البنيان الديمقراطي، إلا إذا كنا نقيم نظاما ديمقراطيا لنتسلى به. وتناولت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في دورتها بتاريخ 27\5\1965 الوضع فقالت: إن ضيق القوى الرجعية بالنظام البرلماني قاد إلى انقلاب 1958. ففي ذلك العام والحركة الشعبية ما زالت ضعيفة، هاجم الرجعيون النظام البرلماني وأدانوه كنظام لا يؤدي إلى الاستقرار و لجأوا للحكم الدكتاتوري السافر... وبهذا يمكننا القول إن الرجعيين وهم يجمعون قواهم تحت راية البرلمانية، يهدفون في الأصل لتهديدها ومصادرة الحقوق الديمقراطية... فلم تعد القضية الآن ديمقراطية أو لا ديمقراطية، بل أصبحت تسير كل يوم كالآتي: أي نوع من الديمقراطية". وتعرض الحزب الشيوعي للتجربة الديمقراطية في مؤتمره الرابع (أكتوبر 1967) فقال: إن ضيق قوى اليمين بالنظام البرلماني قضية تستحق الاعتبار من قبل الشيوعيين وكل الحركة الثورية... وكشفت التكتيكات المرنة التي اتبعها الحزب منذ 1965 عن ضيق قوى اليمين بالنظام البرلماني وعدم قدرتها على حكم البلاد بواسطته.
وشهدت البلاد من 1964 إلى مايو 1969 خمس حكومات مدنية بمعدل حكومة كل عام تقريبا. وتعرضت الأحزاب لسلسلة من الانقسامات والتحالفات. فانقسم حزب الأمة إلى جناح الإمام الهادي وجناح الصادق ثم التحما مرة أخرى. واندمج حزب الشعب الديمقراطي والوطني الاتحادي في الحزب الاتحادي الديمقراطي. وخرجت مجموعة من الأخوان على جبهة الميثاق. وكانت أحشاء الحزب الشيوعي تموج بانقسام تجلى لاحقا.
وبرزت أزمة حادة حول الدستور المزمع وضعه. وكانت الجمعية التأسيسية قد فرغت في يناير 1967 من وضع مسودة للدستور، ولكن الأزمة السياسية أدت إلى حل الجمعية في فبراير. وجاءت جمعية تأسيسية جديدة لمواصلة وضع دستور جديد. وأعلن محمد أحمد محجوب رئيس الوزراء أن وضع دستور دائم للبلاد وإجازته لا يخص الحكومة دون المعارضة. (مداولات الجمعية التأسيسية 10\6\1968).
وخاطب عبد الخالق محجوب الذي انتخب للجمعية في الانتخابات الأخيرة. وكانت مخاطبته لا تخلو من حدة ومن نبرات تهديد. فقال بأنه يجب تطويع اللائحة ليؤدي المجلس أعماله ومسؤولياته، فتحديد الزمن في مناقشة اتجاهات فكرية لم يكن لها وزن انتخابي بالنسبة للقوى العديدة داخل المجلس، أمر مضر. ثم قال ومن الخير أن نقول هنا ما نود أن نقوله بدلا من أن نقوله في الخارج بطريقة قد لا ترضي شقي المجلس. أما عن الدستور فلابد من إيجاد صيغة قومية... ويجب أن يراعى فيها كل الاتجاهات مثل ما حدث عام 1957، وأن توضع مسودة في جو أكثر صحة ومعافاة. (المرجع السابق).
وفي سبتمبر تكونت لجنة الدستور من الأحزاب الممثلة في الجمعية. وخضعت أعمالها للمناورات و"بالكلفتة والعجلة" على حد تعبير جريدة الأيام. وقال الصادق المهدي الذي كان يقف في المعارضة إن الحديث عن الدستور قبل التغلب على المشاكل الكبرى التي تهدد وحدة السودان يعد عبثا ما بعده عبث.
وعندما اقترح بعض النواب حل لجنة الدستور وعرض مسودة 1967 على الجمعية، قال عبد الخالق إن الاقتراح عبث ولا يلقى الاحترام، وأن هذه المناورات لا يستفيد منها سوى أطراف معينة معتقدة أن هذا الطريق سوف يوصلها إلى الحكم. هكذا انفجر الصراع حول الدستور الإسلامي حتى قبل أن يجاز ويطبق.
وكان الوضع الاقتصادي المحور الرئيسي للصراع الاجتماعي. وقد أفرد الحزب الشيوعي في مؤتمره الرابع بابا خاصا له. ومنذ الحكم العسكري انفتح الباب على مصراعيه للدفع الرأسمالي. وقادت السياسة الاقتصادية المبنية على الدفع الرأسمالي إلى تطلع الرأسمالية وأدت إلى طريق مسدود. وبرزت مشكلة العاطلين وبند العطالة. وانتقد الحزب الشيوعي ميزانية 1968\1969، وقال إن السمة الظاهرة لكل ميزانياتنا هي تزايد إيرادات الدولة من الضرائب غير المباشرة التي يقع عبئها على جماهير الشعب، وتزايد الصرف على مجالات أبعد ما تكون على رفع مستوى معيشة الناس.
وبقيت مشكلة الجنوب البؤرة الساخنة في السياسة السودانية منذ انفجارها عام 1955. هكذا انفتح الطريق للانقلاب العسكري، ولم يكن زلزالا أخذنا به على حين غرة، ولا مؤامرة حيكت بليل من مؤامرة سرية قام بها الحزب الشيوعي أو نفر من الضباط.
وشهدت البلاد من 1964 إلى مايو 1969 خمس حكومات مدنية بمعدل حكومة كل عام تقريبا. وتعرضت الأحزاب لسلسلة من الانقسامات والتحالفات. فانقسم حزب الأمة إلى جناح الإمام الهادي وجناح الصادق ثم التحما مرة أخرى. واندمج حزب الشعب الديمقراطي والوطني الاتحادي في الحزب الاتحادي الديمقراطي. وخرجت مجموعة من الأخوان على جبهة الميثاق. وكانت أحشاء الحزب الشيوعي تموج بانقسام تجلى لاحقا.
وبرزت أزمة حادة حول الدستور المزمع وضعه. وكانت الجمعية التأسيسية قد فرغت في يناير 1967 من وضع مسودة للدستور، ولكن الأزمة السياسية أدت إلى حل الجمعية في فبراير. وجاءت جمعية تأسيسية جديدة لمواصلة وضع دستور جديد. وأعلن محمد أحمد محجوب رئيس الوزراء أن وضع دستور دائم للبلاد وإجازته لا يخص الحكومة دون المعارضة. (مداولات الجمعية التأسيسية 10\6\1968).
وخاطب عبد الخالق محجوب الذي انتخب للجمعية في الانتخابات الأخيرة. وكانت مخاطبته لا تخلو من حدة ومن نبرات تهديد. فقال بأنه يجب تطويع اللائحة ليؤدي المجلس أعماله ومسؤولياته، فتحديد الزمن في مناقشة اتجاهات فكرية لم يكن لها وزن انتخابي بالنسبة للقوى العديدة داخل المجلس، أمر مضر. ثم قال ومن الخير أن نقول هنا ما نود أن نقوله بدلا من أن نقوله في الخارج بطريقة قد لا ترضي شقي المجلس. أما عن الدستور فلابد من إيجاد صيغة قومية... ويجب أن يراعى فيها كل الاتجاهات مثل ما حدث عام 1957، وأن توضع مسودة في جو أكثر صحة ومعافاة. (المرجع السابق).
وفي سبتمبر تكونت لجنة الدستور من الأحزاب الممثلة في الجمعية. وخضعت أعمالها للمناورات و"بالكلفتة والعجلة" على حد تعبير جريدة الأيام. وقال الصادق المهدي الذي كان يقف في المعارضة إن الحديث عن الدستور قبل التغلب على المشاكل الكبرى التي تهدد وحدة السودان يعد عبثا ما بعده عبث.
وعندما اقترح بعض النواب حل لجنة الدستور وعرض مسودة 1967 على الجمعية، قال عبد الخالق إن الاقتراح عبث ولا يلقى الاحترام، وأن هذه المناورات لا يستفيد منها سوى أطراف معينة معتقدة أن هذا الطريق سوف يوصلها إلى الحكم. هكذا انفجر الصراع حول الدستور الإسلامي حتى قبل أن يجاز ويطبق.
وكان الوضع الاقتصادي المحور الرئيسي للصراع الاجتماعي. وقد أفرد الحزب الشيوعي في مؤتمره الرابع بابا خاصا له. ومنذ الحكم العسكري انفتح الباب على مصراعيه للدفع الرأسمالي. وقادت السياسة الاقتصادية المبنية على الدفع الرأسمالي إلى تطلع الرأسمالية وأدت إلى طريق مسدود. وبرزت مشكلة العاطلين وبند العطالة. وانتقد الحزب الشيوعي ميزانية 1968\1969، وقال إن السمة الظاهرة لكل ميزانياتنا هي تزايد إيرادات الدولة من الضرائب غير المباشرة التي يقع عبئها على جماهير الشعب، وتزايد الصرف على مجالات أبعد ما تكون على رفع مستوى معيشة الناس.
وبقيت مشكلة الجنوب البؤرة الساخنة في السياسة السودانية منذ انفجارها عام 1955. هكذا انفتح الطريق للانقلاب العسكري، ولم يكن زلزالا أخذنا به على حين غرة، ولا مؤامرة حيكت بليل من مؤامرة سرية قام بها الحزب الشيوعي أو نفر من الضباط.
د/عبد الهادي إبراهيم- عدد الرسائل : 53
الإسم : : dozna.jeeran.com
تاريخ التسجيل : 05/08/2007
رد: تداعيات تاريخية الحزب الشيوعي وانقلاب 25 مايو....
(2 - 2 )
ماذا كان وضع الحزب الشيوعي بعد ثورة أكتوبر وحتى انقلاب 25 مايو؟ تأثر الحزب الشيوعي بعد ثورة أكتوبر بالأوضاع في البلاد وفي المنطقة العربية والعالم. كان لحل الحزب وطرد نوابه من البرلمان آثار سلبية على مساره. ولكنه استطاع أن يلجم الهجمة التي انطلقت بعد حله وطرد نوابه من البرلمان، واستنفر القوى الديمقراطية والنقابات وصمد في الساحة السياسية. بل استطاع أن يفوز بدائرة الخرطوم الشمالية في الانتخابات التكميلية بانتخاب أحمد سليمان عضو اللجنة المركزية، وكانت تلك أول دائرة إقليمية يفوز فيها الحزب. وكانت لطمة سياسية في وجه الذين قاموا بحله. وخاطب عبد الخالق الجماهير التي احتشدت بعد النصر، وقال جملته الشهيرة: إن الاشتراكية الوضاءة هي إسلام القرن العشرين.
وأدى خروج الحزب إلى العلنية لأول مرة في تاريخه، واحتلال بعض كوادره لمناصب برلمانية ووزارية، إلى بروز النزعات الفردية وطغيان العامل الذاتي. وأخذت تلك السلبيات تتسرب إلى جسد الحزب، وتأثر بها بعض كادر الحزب الذين ينحدر أغلبهم من طبقة البرجوازية الصغيرة. فهاجمها عبد الخالق في إحدى دورات اللجنة المركزية قائلاً: ظهرت روح الزعامة البرجوازية القائمة على تصور أن ما يتمتع به الكادر من احترام الجماهير يرجع إلى صفات خاصة به، ولا يرجع إلى مجموع عمل الحزب الشيوعي الثوري، وإلى التضحيات المذهلة من قبل الشيوعيين عبر سنوات النضال الصابر الصامد... فمن المهم أن يناضل حزبنا بثبات، وفي الوقت المناسب ضد روح الزعامة البرجوازية، ومن أجل تثبيت الحقيقة الجوهرية في علاقة الأفراد بمجموع العمل الثوري: لا نفوذ للأفراد فوق الأرض التي يمهد لها النضال المتشعب الصابر للحزب الشيوعي".
وانعكست تلك السلبيات على تقييم الحزب لدور الديمقراطيين الثوريين في المنطقة العربية، وامتد إلى المدارس الاشتراكية في أفريقيا التي نشر عنها عبد الخالق كتابه، والذي انتقد أطروحاته فيما بعد. وخلطت كل تلك المواقف بين الاتجاه التقدمي والموقف الطبقي. وبرزت الدعوة لتكوين حزب اشتراكي ودمج الحزب الشيوعي فيه وإنشاء تنظيم في داخله يسمى القلب الثوري. ارتفعت بعض الأصوات التي تقول إنه لا حاجة للحزب الشيوعي في مرحلة ما قبل الاشتراكية. واعتبر عبد الخالق أن مجمل تلك الأفكار يمثل انحرافا يمينيا، ودعا إلى مكافحتها بالبحث عن أساسها الفكري. ورأى أن هذا من آثار تغليب العلنية، ومن آثار ما سماه الثورة المضادة. ودفعت تلك الصراعات ضمن عوامل أخرى إلى عقد المؤتمر الرابع. (للمزيد من التفاصيل راجع الفصل الخامس من كتابي: معالم في تاريخ الحزب الشيوعي السوداني).
انعقد المؤتمر الرابع في 21 أكتوبر 1967 تيمنا بثورة أكتوبر. ونشر تقرير المؤتمر في كتاب بعنوان: الماركسية وقضايا الثورة السودانية، وأعيد نشره مرة ثانية بعد الانتفاضة. ويرى عبد الخالق أن المؤتمر: "يمثل حقيقة محصول حزبنا فيما يختص بنظرية الثورة... وقدم هيكلاً لاستراتيجية الثورة السودانية، وهذا الهيكل هو لب إنجاز المؤتمر الرابع".
وتناول المؤتمر القضية التي احتدم حولها الصراع لاحقاً، وهي الاستراتيجية والتكتيك والقضايا التي قادت إلى ما سماه الانحرافات السابقة والتي احتدم حولها الصراع لاحقاً وعلى رأسها دور الديمقراطيين الثوريين. وأشار التقرير إلى المهام المعقدة التي تواجه حركة الثورة العربية وأبرزها احتلال العناصر الديمقراطية مكان القيادة في الأقسام التي وصلت منها إلى السلطة. ورغم أن تلك القيادات حققت إنجازات اجتماعية، إلا أن حديثهم يشوبه بعض الغموض من الناحية النظرية ويحوي مفاهيم غير علمية عن الاشتراكية. ويرى أن هناك تبايناً في تقييم تجربة الديمقراطيين الثوريين. فهناك التقديرات اليمينية التي تهول منها وتعتبرها تجربة متكاملة تحمل نفياً للماركسية حول قوانين التطور الاجتماعي. وهناك تقديرات لبرالية تهبط بها إلى مستوى حركة برجوازية صغيرة عاجزة عن مواكبة الثورة الاجتماعية ناهيك عن قيادتها. وحتى لا ننزلق في تعصبات الجمود العقائدي وخطأ التقديرات الذاتية، من المهم أن يتم تقييم هذه الثورة في الظروف التاريخية المعينة.
ثم تعرض التقرير إلى تفشي روح اليأس والاستسلام في الظروف التي أعقبت قرار الحل. فارتفعت أصوات تعلن أن الطريق أمام الحركة الثورية أصبح مقفولاً. وظهرت هذه الآثار السلبية على أقسام من البرجوازية الصغيرة، وفي انغماس بعضها في الفساد واللامبالاة. وهذه نكسة وهي ليست مستغربة.. ولكن النضال اليومي للحزب الشيوعي والثوريين والعمل الفكري الدؤوب، يؤدي إلى انحسار هذه الموجة. ووصل ببعضها القول بأنه لا توجد طبقات في السودان، ولذلك لا حاجة للحزب الشيوعي. وينتهي التقرير إلى القول بأن هذا الصراع يجب أن يتم وفق الأسس اللينينية.
وخضع انتخاب اللجنة المركزية في المؤتمر لتوازنات قوى عديدة. فقال تقرير اللجنة المركزية الذي نشر عام 1996 إن اللجنة المركزية التي اختارها المؤتمر الرابع جاءت مثقلة باتجاه تصفوي ظل يتحين الفرص لتذويب الحزب في تيارات البرجوازية الصغيرة.
وتواصل هذا الصراع الأيديولوجي بشكل أكثر حدة بعد المؤتمر الرابع وحتى انقلاب مايو. فعقدت اللجنة المركزية اجتماعين في فترة وجيزة مما يعكس عمق الصراع، لأن الصراع الأيديولوجي يتخذ أشكالاً جديدة في كل منعطف. وركز الاجتماعان على خطر التفكير الانقلابي الذي أخذ يطل في أفق السياسة السودانية.
جاء في الدورة الأولى (يونيو 1968) أن التحليل الطبقي يتطلب صراعاً فكرياً عميقاً، ليس فقط وسط الحركة الجماهيرية، بل بين صفوف الحزب الشيوعي أيضاً. ودار نقاش حمل وضع الرأسمالية. وعلق عبد الخالق عليه قائلاً إن فهمنا لمدى وضع الرأسمالية بشقيها الوطني وغير الوطني، يتوقف عليه قيادة الحزب الشيوعي للحركة الثورية.
وتطرقت وثيقة اللجنة المركزية إلى قضية الديمقراطية في اقترابها من قضية التغيير الاجتماعي وأهمية وضعها بين الجماهير لضمان النضال ضد روح اليأس والمغامرة. فالقوى اليائسة والمغامرة من البرجوازية الصغيرة، ترى أن النضال من أجل الحقوق الديمقراطية البرجوازية لا يقود لشيء، والطريق هو الدعوة من فوق رأس البيوت للديمقراطية الجديدة وحدها، متناسية أن هناك ذلك الارتباط العضوي. فلكي تصل الجماهير إلى نقطة الاقتناع بالديمقراطية الجديدة ذات المحتوى الاجتماعي، عليها أولاً وقبل كل شيء أن تكسب حقوقها، وأن تدرك فيما بعد أن المشكلة ليست مشكلة حقوق بل هي الضمانات لتنفيذ تلك الحقوق.
وأكد عبد الخالق في مجلة الشيوعي على بعض تلك القضايا. فقال عندما يؤكد المؤتمر الرابع أن المرحلة الثورية ما زالت مرحلة التطور الوطني الديمقراطي، فإن المؤتمر يوجه ضربة نحو مواقع اليسار التي تريد أن تقفز فوق المراحل اعتماداً على تصورات ذاتية، ويوجه ضربة نحو الاتجاهات اليمينية التي تتغاضى عن وجود قوى حقيقية تطرح قضية التقدم الاجتماعي. ويرى أن المجهود لتطوير الثورة السودانية لن يعود للجماهير بفوائد ما لم تطرح قضية تنظيم الجماهير في العمل اليومي.
وانعقدت دورة اللجنة المركزية التالية في مارس 1969 في خضم ذلك الصراع ونذر الانقلاب العسكري تطل في سماء السياسة السودانية. فما هي القضايا التي تناولتها؟ إن الحديث عن علاقة الحزب الشيوعي بانقلاب 25 مايو لا يمكن تناولها إلا في ذلك الإطار.
ماذا كان وضع الحزب الشيوعي بعد ثورة أكتوبر وحتى انقلاب 25 مايو؟ تأثر الحزب الشيوعي بعد ثورة أكتوبر بالأوضاع في البلاد وفي المنطقة العربية والعالم. كان لحل الحزب وطرد نوابه من البرلمان آثار سلبية على مساره. ولكنه استطاع أن يلجم الهجمة التي انطلقت بعد حله وطرد نوابه من البرلمان، واستنفر القوى الديمقراطية والنقابات وصمد في الساحة السياسية. بل استطاع أن يفوز بدائرة الخرطوم الشمالية في الانتخابات التكميلية بانتخاب أحمد سليمان عضو اللجنة المركزية، وكانت تلك أول دائرة إقليمية يفوز فيها الحزب. وكانت لطمة سياسية في وجه الذين قاموا بحله. وخاطب عبد الخالق الجماهير التي احتشدت بعد النصر، وقال جملته الشهيرة: إن الاشتراكية الوضاءة هي إسلام القرن العشرين.
وأدى خروج الحزب إلى العلنية لأول مرة في تاريخه، واحتلال بعض كوادره لمناصب برلمانية ووزارية، إلى بروز النزعات الفردية وطغيان العامل الذاتي. وأخذت تلك السلبيات تتسرب إلى جسد الحزب، وتأثر بها بعض كادر الحزب الذين ينحدر أغلبهم من طبقة البرجوازية الصغيرة. فهاجمها عبد الخالق في إحدى دورات اللجنة المركزية قائلاً: ظهرت روح الزعامة البرجوازية القائمة على تصور أن ما يتمتع به الكادر من احترام الجماهير يرجع إلى صفات خاصة به، ولا يرجع إلى مجموع عمل الحزب الشيوعي الثوري، وإلى التضحيات المذهلة من قبل الشيوعيين عبر سنوات النضال الصابر الصامد... فمن المهم أن يناضل حزبنا بثبات، وفي الوقت المناسب ضد روح الزعامة البرجوازية، ومن أجل تثبيت الحقيقة الجوهرية في علاقة الأفراد بمجموع العمل الثوري: لا نفوذ للأفراد فوق الأرض التي يمهد لها النضال المتشعب الصابر للحزب الشيوعي".
وانعكست تلك السلبيات على تقييم الحزب لدور الديمقراطيين الثوريين في المنطقة العربية، وامتد إلى المدارس الاشتراكية في أفريقيا التي نشر عنها عبد الخالق كتابه، والذي انتقد أطروحاته فيما بعد. وخلطت كل تلك المواقف بين الاتجاه التقدمي والموقف الطبقي. وبرزت الدعوة لتكوين حزب اشتراكي ودمج الحزب الشيوعي فيه وإنشاء تنظيم في داخله يسمى القلب الثوري. ارتفعت بعض الأصوات التي تقول إنه لا حاجة للحزب الشيوعي في مرحلة ما قبل الاشتراكية. واعتبر عبد الخالق أن مجمل تلك الأفكار يمثل انحرافا يمينيا، ودعا إلى مكافحتها بالبحث عن أساسها الفكري. ورأى أن هذا من آثار تغليب العلنية، ومن آثار ما سماه الثورة المضادة. ودفعت تلك الصراعات ضمن عوامل أخرى إلى عقد المؤتمر الرابع. (للمزيد من التفاصيل راجع الفصل الخامس من كتابي: معالم في تاريخ الحزب الشيوعي السوداني).
انعقد المؤتمر الرابع في 21 أكتوبر 1967 تيمنا بثورة أكتوبر. ونشر تقرير المؤتمر في كتاب بعنوان: الماركسية وقضايا الثورة السودانية، وأعيد نشره مرة ثانية بعد الانتفاضة. ويرى عبد الخالق أن المؤتمر: "يمثل حقيقة محصول حزبنا فيما يختص بنظرية الثورة... وقدم هيكلاً لاستراتيجية الثورة السودانية، وهذا الهيكل هو لب إنجاز المؤتمر الرابع".
وتناول المؤتمر القضية التي احتدم حولها الصراع لاحقاً، وهي الاستراتيجية والتكتيك والقضايا التي قادت إلى ما سماه الانحرافات السابقة والتي احتدم حولها الصراع لاحقاً وعلى رأسها دور الديمقراطيين الثوريين. وأشار التقرير إلى المهام المعقدة التي تواجه حركة الثورة العربية وأبرزها احتلال العناصر الديمقراطية مكان القيادة في الأقسام التي وصلت منها إلى السلطة. ورغم أن تلك القيادات حققت إنجازات اجتماعية، إلا أن حديثهم يشوبه بعض الغموض من الناحية النظرية ويحوي مفاهيم غير علمية عن الاشتراكية. ويرى أن هناك تبايناً في تقييم تجربة الديمقراطيين الثوريين. فهناك التقديرات اليمينية التي تهول منها وتعتبرها تجربة متكاملة تحمل نفياً للماركسية حول قوانين التطور الاجتماعي. وهناك تقديرات لبرالية تهبط بها إلى مستوى حركة برجوازية صغيرة عاجزة عن مواكبة الثورة الاجتماعية ناهيك عن قيادتها. وحتى لا ننزلق في تعصبات الجمود العقائدي وخطأ التقديرات الذاتية، من المهم أن يتم تقييم هذه الثورة في الظروف التاريخية المعينة.
ثم تعرض التقرير إلى تفشي روح اليأس والاستسلام في الظروف التي أعقبت قرار الحل. فارتفعت أصوات تعلن أن الطريق أمام الحركة الثورية أصبح مقفولاً. وظهرت هذه الآثار السلبية على أقسام من البرجوازية الصغيرة، وفي انغماس بعضها في الفساد واللامبالاة. وهذه نكسة وهي ليست مستغربة.. ولكن النضال اليومي للحزب الشيوعي والثوريين والعمل الفكري الدؤوب، يؤدي إلى انحسار هذه الموجة. ووصل ببعضها القول بأنه لا توجد طبقات في السودان، ولذلك لا حاجة للحزب الشيوعي. وينتهي التقرير إلى القول بأن هذا الصراع يجب أن يتم وفق الأسس اللينينية.
وخضع انتخاب اللجنة المركزية في المؤتمر لتوازنات قوى عديدة. فقال تقرير اللجنة المركزية الذي نشر عام 1996 إن اللجنة المركزية التي اختارها المؤتمر الرابع جاءت مثقلة باتجاه تصفوي ظل يتحين الفرص لتذويب الحزب في تيارات البرجوازية الصغيرة.
وتواصل هذا الصراع الأيديولوجي بشكل أكثر حدة بعد المؤتمر الرابع وحتى انقلاب مايو. فعقدت اللجنة المركزية اجتماعين في فترة وجيزة مما يعكس عمق الصراع، لأن الصراع الأيديولوجي يتخذ أشكالاً جديدة في كل منعطف. وركز الاجتماعان على خطر التفكير الانقلابي الذي أخذ يطل في أفق السياسة السودانية.
جاء في الدورة الأولى (يونيو 1968) أن التحليل الطبقي يتطلب صراعاً فكرياً عميقاً، ليس فقط وسط الحركة الجماهيرية، بل بين صفوف الحزب الشيوعي أيضاً. ودار نقاش حمل وضع الرأسمالية. وعلق عبد الخالق عليه قائلاً إن فهمنا لمدى وضع الرأسمالية بشقيها الوطني وغير الوطني، يتوقف عليه قيادة الحزب الشيوعي للحركة الثورية.
وتطرقت وثيقة اللجنة المركزية إلى قضية الديمقراطية في اقترابها من قضية التغيير الاجتماعي وأهمية وضعها بين الجماهير لضمان النضال ضد روح اليأس والمغامرة. فالقوى اليائسة والمغامرة من البرجوازية الصغيرة، ترى أن النضال من أجل الحقوق الديمقراطية البرجوازية لا يقود لشيء، والطريق هو الدعوة من فوق رأس البيوت للديمقراطية الجديدة وحدها، متناسية أن هناك ذلك الارتباط العضوي. فلكي تصل الجماهير إلى نقطة الاقتناع بالديمقراطية الجديدة ذات المحتوى الاجتماعي، عليها أولاً وقبل كل شيء أن تكسب حقوقها، وأن تدرك فيما بعد أن المشكلة ليست مشكلة حقوق بل هي الضمانات لتنفيذ تلك الحقوق.
وأكد عبد الخالق في مجلة الشيوعي على بعض تلك القضايا. فقال عندما يؤكد المؤتمر الرابع أن المرحلة الثورية ما زالت مرحلة التطور الوطني الديمقراطي، فإن المؤتمر يوجه ضربة نحو مواقع اليسار التي تريد أن تقفز فوق المراحل اعتماداً على تصورات ذاتية، ويوجه ضربة نحو الاتجاهات اليمينية التي تتغاضى عن وجود قوى حقيقية تطرح قضية التقدم الاجتماعي. ويرى أن المجهود لتطوير الثورة السودانية لن يعود للجماهير بفوائد ما لم تطرح قضية تنظيم الجماهير في العمل اليومي.
وانعقدت دورة اللجنة المركزية التالية في مارس 1969 في خضم ذلك الصراع ونذر الانقلاب العسكري تطل في سماء السياسة السودانية. فما هي القضايا التي تناولتها؟ إن الحديث عن علاقة الحزب الشيوعي بانقلاب 25 مايو لا يمكن تناولها إلا في ذلك الإطار.
د/عبد الهادي إبراهيم- عدد الرسائل : 53
الإسم : : dozna.jeeran.com
تاريخ التسجيل : 05/08/2007
رد: تداعيات تاريخية الحزب الشيوعي وانقلاب 25 مايو....
(3 )
كانت دورة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في مارس 1969 من أهم الدورات بالذات بالنسبة لعلاقته بانقلاب مايو فيما بعد.
يقول التقرير إن البرجوازية الوطنية، ولأسباب عديدة، تؤثر على الحزب الشيوعي بضغوط فكرية في محاولة لإرجاعه عن خطه الرامي لقيادة الثورة وإقناعه بقيادة البرجوازية والتحالف معها تحت مظلتها. كان هذا الصراع من قبل عالياً، لأن البرجوازية نفسها كانت بالفعل تتزعم حركة الجماهير الوطنية. ولذلك فإن الانقسامات في الحزب في عامي 1956 و 1964 كانت أصواتها عالية، أما في الوضع الراهن فمواقع البرجوازية بين حركة الجماهير الثورية ضعيفة. ولذلك فإن أثرها الفكري داخل الحزب الشيوعي لا يتخذ شكل شعارات واضحة عالية ومفصحة، ولكنها تحقق أهدافها بطرق أخرى. ورغم خطورة هذا الهجوم التي تقوده تلك العناصر التي أسمتهم الوثيقة "العميلة الانتهازية"، إلا أن الخطر الأكبر هو وجود تربة صالحة تنيت اليأس والتراجع البرجوازي الصغير, وعلى الحزب مواجهة الاستفزازات التي تهدف إلى دفعه للدخول في معارك لم تنضج بعد لتغيير تكتيكه من الدفاع إلى الهجوم في وقت لم تتهيأ فيه الظروف لمثل هذا التغير.
وتمضي الوثيقة لتقول إنه في ظروف الثورة المضادة يسود اليأس ويعلو التراجع، خاصة بين عناصر البرجوازية الصغيرة، فتلتحف بدثار اليسار شكلاً ولكنها في الجوهر اتجاهات يمينية تحاول إجهاض العمل الثوري الصبور قبل أن ينضج ويستوي، وتحتقر العمل الصبور. ولذلك فهي تتطهر من مسؤوليات العمل اليومي.
وكرست الوثيقة حيزاً كبيراً لقضية الانقلاب العسكري. فقالت إن بروز واشتداد الدعوة للانقلاب العسكري تجد لها أيضا جذوراً في تفكك النظام السياسي الذي يتدلى في قاع الفساد وتسوء سمعته بين الجماهير. ولذلك ليس غريباً أن تطل الفكرة القائلة بتدخل القوات المسلحة. ولكن من المهم أن تكون للقوى الشعبية مراكز تشد إليها أنظار الجماهير حتى لا يجد أي حل عسكري تأييداً جماهيرياً في حالة القلق واليأس الراهنة التي تطرح القضية وكأنها استمرار للنظام البرلماني الفاسد أو الانقلاب العسكري. وفي كلا الحالتين فالشعب لا يد له في مواجهة قضاياه. وعلى قيادة الحزب وكادره اتخاذ موقف حازم للخروج نهائيا من حيز المشاكل التافهة والجو المسموم الذي يغذيه أعداء الثورة.
ثم تمضي الوثيقة لتؤكد أن تكتيك الانقلاب هو إجهاض للثورة ونقل مواقع قيادتها حاضرها ومستقبلها إلى فئات أخرى من البرجوازية والبرجوازية الصغيرة. والبرجوازية الصغيرة مهتزة وليس في استطاعتها السير بحركة الثورة بطريقة متصلة، بل ستعرضها للآلام ولأضرار واسعة، وقد جربت في ثورة أكتوبر فأسهمت في انتكاسة العمل الثوري. ثم تعلن الوثيقة بالصوت العالي قائلة: إن التكتيك الانقلابي بديلا عن العمل الجماهيري، يمثل في نهاية الأمر _ وسط قوى الجبهة الوطنية الديمقراطية _ مصالح فئة البرجوازية والبرجوازية الصغيرة.
ودعت اللجنة المركزية إلى إجراء تغيير جذري في قيادة الحزب. لأن الثورة الوطنية خطت خطوات إلى الأمام نحو التحامها بالثورة الاجتماعية. وألمحت اللجنة المركزية نحو الوجهة التي يتم بها إعادة تركيب القيادة. فأشارت إلى أن تغيير فترة المرحلة الثورية، وبروز التيارات الفكرية للبرجوازية الصغيرة الباحثة عن بديل للماركسية وللحزب الشيوعي، جعلت أسس الوحدة في الحزب تنتقل إلى مرحلة أعلى، إلى القضايا النظرية للثورة. وهذا الميدان الجديد يتطلب نوعاً جديداً من الكادر المثقف الذي يهيء ذاته في ميدان المعرفة. إنه ليس كادر العمل السياسي بالمفهوم الذي دخل به المثقفون في الماضي صفوف الحركة الشيوعية السودانية.
أبرزت وثائق الحزب في الفترة التي سبقت انقلاب مايو قضايا أساسية. أهمها الموقف المبدئي الصارم من الانقلاب العسكري، وضرورة تغيير قيادة الحزب، والتركيز على العمل الجماهيري الصبور طويل النفس.
أخذ الصراع الأيديولوجي يتجلى في بعض جوانب النشاط العملي. ونكتفي بمثالين. الأول تكوين اتحاد القوى الاشتراكية للخروج من مأزق الدعوة للانقلاب ولمواجهة التيار الداعي للدستور الإسلامي. وتم التوقيع على ميثاق ذلك الاتحاد الذي ضم الناصريين والاشتراكيين الديمقراطيين الشيوعيين وشخصيات مستقلة. وتكونت لجنة من اثني عشر عضوا هم: بابكر عوض الله، إبراهيم يوسف سليمان، عابدين إسماعيل حسن احمد الكد، مكاوي مصطفى، أمين الشبلي، محجوب محمد صالح، طه بعشر، عزالدين علي عامر، الشفيع أحمد الشيخ، عبد الخالق محجوب. وتم صياغة برنامج للتحالف. وفي يناير 1969 تطور الميثاق لمواجهة انتخابات رئاسة الجمهورية التي بدأ الإعداد لها، ورشح التحالف بابكر عوض الله.
وانفجر الصراع حول الانقلابات العسكرية وطفح على صفحات الجرائد. فنشر أحمد سليمان عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي مقالات في جريدة الأيام (5-6-8 / 12 \ 1968 ).وخلص فيها إلى المخرج من أزمة الحكم الراهنة هو وضع ميثاق شعبي يصحح هنات أكتوبر. ويقوم بتنفيذ ذلك الميثاق حكومة وحدة وطنية تتمتع بالاستقرار. ولا سبيل إلى هذا الاستقرار غير حماية القوات المسلحة. فالجيش هو القوة الوحيدة التي تستطيع أن تحمي الميثاق المنشود وحكومته، ويستطيع بما يتمتع به من وحدة أن يردع المارقين والمغامرين.
ورد عليه عبد الخالق في جريدة أخبار الأسبوع (يناير، 1969). فقال إن الحديث عن القوات المسلحة كثر هذه الأيام بوصفها الأمل الوحيد للإنقاذ. والحديث في هذا الإجمال خطير ويتجاهل تجربة أهل السودان مع الحكم العسكري. والحاجة التاريخية في البلاد اليوم ليست في مستوى بعض الإجراءات مثل الضبط والربط والتنفيذ السريع. كما أنها ترفض قطعاً المسخ الذي سموه حزماً وسياسة فكان وبالاً على الحركة الثورية. كما أن الحديث عن أجهزة الدولة بوصفها قوة اجتماعية منفصلة عن بقية المجتمع، حديث غير سليم ومجاف للحقيقة. فالقوات المسلحة لا تخرج من إطار التحليل الطبقي.
ثم يقول إن أحمد سليمان يرى أن الحل لأزمة الحكم والطبقات الحاكمة هو قيام حكومة الوحدة الوطنية التي تجمع بين القوى التقدمية والرجعية. كما يعارض تحليل المؤتمر الرابع الذي لا يرى في القوات المسلحة جمعاً طبقياً واحداً، بل هو يقترح دخول القوات المسلحة بأقسامها الوطنية والرجعية لحل أزمة الحكم وحماية حكومة الوحدة الوطنية – ولكن حمايتها من من؟ ألا يدل حديث أحمد سليمان أن القوات المسلحة مدعوة إلى دعم حكم رجعي به عناصر تقدمية شكلاً، وإيجاد صيغة للتصالح بين القوى الرجعية حتى في أبسط ميادين الديمقراطية وهو الانتخابات.
كان الصراع الأيديولوجي داخل الحزب الشيوعي حاداً وعميقاً. ورغم أن الحزب مازال حزباً واحداً من الناحية التنظيمية، إلا أن في داخله تيارات تتماوج وتصطرع. ثم وقع انقلاب مايو.
كانت دورة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في مارس 1969 من أهم الدورات بالذات بالنسبة لعلاقته بانقلاب مايو فيما بعد.
يقول التقرير إن البرجوازية الوطنية، ولأسباب عديدة، تؤثر على الحزب الشيوعي بضغوط فكرية في محاولة لإرجاعه عن خطه الرامي لقيادة الثورة وإقناعه بقيادة البرجوازية والتحالف معها تحت مظلتها. كان هذا الصراع من قبل عالياً، لأن البرجوازية نفسها كانت بالفعل تتزعم حركة الجماهير الوطنية. ولذلك فإن الانقسامات في الحزب في عامي 1956 و 1964 كانت أصواتها عالية، أما في الوضع الراهن فمواقع البرجوازية بين حركة الجماهير الثورية ضعيفة. ولذلك فإن أثرها الفكري داخل الحزب الشيوعي لا يتخذ شكل شعارات واضحة عالية ومفصحة، ولكنها تحقق أهدافها بطرق أخرى. ورغم خطورة هذا الهجوم التي تقوده تلك العناصر التي أسمتهم الوثيقة "العميلة الانتهازية"، إلا أن الخطر الأكبر هو وجود تربة صالحة تنيت اليأس والتراجع البرجوازي الصغير, وعلى الحزب مواجهة الاستفزازات التي تهدف إلى دفعه للدخول في معارك لم تنضج بعد لتغيير تكتيكه من الدفاع إلى الهجوم في وقت لم تتهيأ فيه الظروف لمثل هذا التغير.
وتمضي الوثيقة لتقول إنه في ظروف الثورة المضادة يسود اليأس ويعلو التراجع، خاصة بين عناصر البرجوازية الصغيرة، فتلتحف بدثار اليسار شكلاً ولكنها في الجوهر اتجاهات يمينية تحاول إجهاض العمل الثوري الصبور قبل أن ينضج ويستوي، وتحتقر العمل الصبور. ولذلك فهي تتطهر من مسؤوليات العمل اليومي.
وكرست الوثيقة حيزاً كبيراً لقضية الانقلاب العسكري. فقالت إن بروز واشتداد الدعوة للانقلاب العسكري تجد لها أيضا جذوراً في تفكك النظام السياسي الذي يتدلى في قاع الفساد وتسوء سمعته بين الجماهير. ولذلك ليس غريباً أن تطل الفكرة القائلة بتدخل القوات المسلحة. ولكن من المهم أن تكون للقوى الشعبية مراكز تشد إليها أنظار الجماهير حتى لا يجد أي حل عسكري تأييداً جماهيرياً في حالة القلق واليأس الراهنة التي تطرح القضية وكأنها استمرار للنظام البرلماني الفاسد أو الانقلاب العسكري. وفي كلا الحالتين فالشعب لا يد له في مواجهة قضاياه. وعلى قيادة الحزب وكادره اتخاذ موقف حازم للخروج نهائيا من حيز المشاكل التافهة والجو المسموم الذي يغذيه أعداء الثورة.
ثم تمضي الوثيقة لتؤكد أن تكتيك الانقلاب هو إجهاض للثورة ونقل مواقع قيادتها حاضرها ومستقبلها إلى فئات أخرى من البرجوازية والبرجوازية الصغيرة. والبرجوازية الصغيرة مهتزة وليس في استطاعتها السير بحركة الثورة بطريقة متصلة، بل ستعرضها للآلام ولأضرار واسعة، وقد جربت في ثورة أكتوبر فأسهمت في انتكاسة العمل الثوري. ثم تعلن الوثيقة بالصوت العالي قائلة: إن التكتيك الانقلابي بديلا عن العمل الجماهيري، يمثل في نهاية الأمر _ وسط قوى الجبهة الوطنية الديمقراطية _ مصالح فئة البرجوازية والبرجوازية الصغيرة.
ودعت اللجنة المركزية إلى إجراء تغيير جذري في قيادة الحزب. لأن الثورة الوطنية خطت خطوات إلى الأمام نحو التحامها بالثورة الاجتماعية. وألمحت اللجنة المركزية نحو الوجهة التي يتم بها إعادة تركيب القيادة. فأشارت إلى أن تغيير فترة المرحلة الثورية، وبروز التيارات الفكرية للبرجوازية الصغيرة الباحثة عن بديل للماركسية وللحزب الشيوعي، جعلت أسس الوحدة في الحزب تنتقل إلى مرحلة أعلى، إلى القضايا النظرية للثورة. وهذا الميدان الجديد يتطلب نوعاً جديداً من الكادر المثقف الذي يهيء ذاته في ميدان المعرفة. إنه ليس كادر العمل السياسي بالمفهوم الذي دخل به المثقفون في الماضي صفوف الحركة الشيوعية السودانية.
أبرزت وثائق الحزب في الفترة التي سبقت انقلاب مايو قضايا أساسية. أهمها الموقف المبدئي الصارم من الانقلاب العسكري، وضرورة تغيير قيادة الحزب، والتركيز على العمل الجماهيري الصبور طويل النفس.
أخذ الصراع الأيديولوجي يتجلى في بعض جوانب النشاط العملي. ونكتفي بمثالين. الأول تكوين اتحاد القوى الاشتراكية للخروج من مأزق الدعوة للانقلاب ولمواجهة التيار الداعي للدستور الإسلامي. وتم التوقيع على ميثاق ذلك الاتحاد الذي ضم الناصريين والاشتراكيين الديمقراطيين الشيوعيين وشخصيات مستقلة. وتكونت لجنة من اثني عشر عضوا هم: بابكر عوض الله، إبراهيم يوسف سليمان، عابدين إسماعيل حسن احمد الكد، مكاوي مصطفى، أمين الشبلي، محجوب محمد صالح، طه بعشر، عزالدين علي عامر، الشفيع أحمد الشيخ، عبد الخالق محجوب. وتم صياغة برنامج للتحالف. وفي يناير 1969 تطور الميثاق لمواجهة انتخابات رئاسة الجمهورية التي بدأ الإعداد لها، ورشح التحالف بابكر عوض الله.
وانفجر الصراع حول الانقلابات العسكرية وطفح على صفحات الجرائد. فنشر أحمد سليمان عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي مقالات في جريدة الأيام (5-6-8 / 12 \ 1968 ).وخلص فيها إلى المخرج من أزمة الحكم الراهنة هو وضع ميثاق شعبي يصحح هنات أكتوبر. ويقوم بتنفيذ ذلك الميثاق حكومة وحدة وطنية تتمتع بالاستقرار. ولا سبيل إلى هذا الاستقرار غير حماية القوات المسلحة. فالجيش هو القوة الوحيدة التي تستطيع أن تحمي الميثاق المنشود وحكومته، ويستطيع بما يتمتع به من وحدة أن يردع المارقين والمغامرين.
ورد عليه عبد الخالق في جريدة أخبار الأسبوع (يناير، 1969). فقال إن الحديث عن القوات المسلحة كثر هذه الأيام بوصفها الأمل الوحيد للإنقاذ. والحديث في هذا الإجمال خطير ويتجاهل تجربة أهل السودان مع الحكم العسكري. والحاجة التاريخية في البلاد اليوم ليست في مستوى بعض الإجراءات مثل الضبط والربط والتنفيذ السريع. كما أنها ترفض قطعاً المسخ الذي سموه حزماً وسياسة فكان وبالاً على الحركة الثورية. كما أن الحديث عن أجهزة الدولة بوصفها قوة اجتماعية منفصلة عن بقية المجتمع، حديث غير سليم ومجاف للحقيقة. فالقوات المسلحة لا تخرج من إطار التحليل الطبقي.
ثم يقول إن أحمد سليمان يرى أن الحل لأزمة الحكم والطبقات الحاكمة هو قيام حكومة الوحدة الوطنية التي تجمع بين القوى التقدمية والرجعية. كما يعارض تحليل المؤتمر الرابع الذي لا يرى في القوات المسلحة جمعاً طبقياً واحداً، بل هو يقترح دخول القوات المسلحة بأقسامها الوطنية والرجعية لحل أزمة الحكم وحماية حكومة الوحدة الوطنية – ولكن حمايتها من من؟ ألا يدل حديث أحمد سليمان أن القوات المسلحة مدعوة إلى دعم حكم رجعي به عناصر تقدمية شكلاً، وإيجاد صيغة للتصالح بين القوى الرجعية حتى في أبسط ميادين الديمقراطية وهو الانتخابات.
كان الصراع الأيديولوجي داخل الحزب الشيوعي حاداً وعميقاً. ورغم أن الحزب مازال حزباً واحداً من الناحية التنظيمية، إلا أن في داخله تيارات تتماوج وتصطرع. ثم وقع انقلاب مايو.
د/عبد الهادي إبراهيم- عدد الرسائل : 53
الإسم : : dozna.jeeran.com
تاريخ التسجيل : 05/08/2007
رد: تداعيات تاريخية الحزب الشيوعي وانقلاب 25 مايو....
( 4 )
كانت هناك عدة قوى سياسية تستبق الخطى نحو الجيش، حتى غدا الأمر في المراحل الأخيرة وكأنه سباق محموم. وكان الحزب الشيوعي قد بدأ منذ الخمسينيات في إقامة تنظيم سري داخل الجيش تحت إشراف عبد الخالق المباشر. وكان للضباط الأحرار أيضا تنظيم داخل الجيش يضم قوى سياسية مختلفة من شيوعيين وناصريين وبعثيين. (راجع كتاب محمد محجوب عثمان، الجيش والسياسة في السودان. 1998).
ومع اشتداد الأزمة السياسية، نشط الضباط الأحرار تدفع بهم قوى سياسية داخلية وخارجية. ولم تكن مصر بعيدة عن ما كان يجري في السودان، وكان لها تأثير من جانبين. من جانب كان جمال عبد الناصر نجما ساطعا في سماء السياسة العربية، واتخذ منه بعض الضباط نموذجا يحتذى به. من الجانب الآخر كانت المخابرات المصرية تمد لها خلجانا داخل الأحزاب السياسية بما فيها الحزب الشيوعي. وهناك مخابرات دول أخرى. وقد وصف عبد الخالق أحد قادة الحزب الذين كانت له صلات بمخابرات أجنبية قائلا عنه: He has glassy eyes أي له عيون زجاجية.
ومنذ أبريل 1969، بدأ بابكر عوض الله يضعف عمله في اللجنة السياسية لتحالف القوى الاشتراكية، وأخذ يقوي صلاته بالضباط الأحرار وبمصر. وطرح الضباط الأحرار على الحزب الشيوعي فكرة الانقلاب العسكري، واعترضت عليها اللجنة المركزية في دورة مارس 1969. ثم حمل الفكرة بابكر عوض الله وفاروق حمد الله وهو العقل المفكر والمنسق لانقلاب 25 مايو، وعرضاها على عبد الخالق. ورفض المكتب السياسي للمرة الثانية فكرة الانقلاب. وعندما طرح موضوع الانقلاب في اجتماع الضباط الأحرار، عارضه غالبيتهم. وقالت سكرتارية اللجنة المركزية للحزب الشيوعي عام 1969 إن تلك المواقف ظلت محصورة في إطار أجهزة الحزب. وقالت إن رفض المكتب السياسي للانقلاب لم تتبعه دعوة اللجنة المركزية لعرض الأمر عليها وتوحيد مجموع الحزب في مواجهة الفكر الانقلابي. وهذه ملاحظات ثاقبة.
ورغم تلك المعارضة، قرر الضباط القوميون تنفيذ الانقلاب منفردين لأنهم كانوا في مواقع مؤثرة في الجيش أساسا الاستخبارات والمظللات والمدرعات. وعلى الرغم من أنهم كانوا قلة ليس بالنسبة للمجتمع فحسب، بل حتى بالنسبة للجيش. إلا أن العزلة التي أحاطت بالنظام من جراء الأزمات، جعلت العملية الانقلابية تتم في يسر. وسقط النظام مثل حبة فاكهة متخثرة.
وبرز الانقلاب بواجهة يسارية صارخة. فرئيس الوزراء بابكر عوض الله كان مرشح اليسار لانتخابات رئاسة الجمهورية. وبيان الانقلاب الذي تلاه مـأخوذ من ميثاق القوى الاشتراكية، ولغته هي لغة اليسار العريض. وقائد الانقلاب نميري له مواقف مشهودة وله سمعة وطنية عالية بين صفوف القوات المسلحة قبل أن ينكشف وجهه الكالح الكريه. وكان اثنان من أعضاء مجلس قيادة الثورة من الضباط الشيوعيين وهما بابكر النور وهاشم العطا رغم أنهما لم يشاركا في العملية العسكرية التي نفذت الانقلاب. وكان مجلس الوزراء الذي أعلن في نفس اليوم يضم أربعة وزراء شيوعيين منهم اثنان من أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي وهما جوزيف قرنق ومحجوب عثمان، ومعهما فاروق أبو عيسى وموريس سدرة.
كان وضع الحزب الشيوعي في موقف لا يحسد عليه. فقد نفذ الضباط الأحرار الانقلاب. وكان تنظيمهم يسع تيارات سياسية شتى تلتقي في أهداف عامة، ولكنها تختلف بالضرورة في وسائل التكتيك للوصول لتلك الأهداف وأساليب تنفيذها. وكان التكتيك الانقلابي غالبا على التنظيم، وما كان لإشراك الشيوعيين فيه أن يغير من طابعه. ( تقييم السكرتارية المركزية للحزب الشيوعي لانقلاب 10 يوليو، يناير 1969).
تم تنفيذ الانقلاب وكان ذلك ضد طرح الحزب الشيوعي المعارض للانقلابات الذي ظل يدعو له بإلحاح في وثائقه. ولكن كان داخل الحزب تيار مؤثر يدعو للانقلاب. فكان الحزب الشيوعي في الواقع يضم تيارين في تنظيم واحد، ولم يحسم أمرها بعد. وجاء الانقلاب بواجهة يسارية وبرموز يسارية أيضا. ولكن جاء اختيار الشيوعيين للسلطة دون أخذ رأي الحزب وإنما بتعيين فوقي. فماذا هو فاعل في هذا الموقف البالغ التعقيد؟
اجتمعت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي مساء 25 مايو، وناقشت البيان السياسي الذي تلاه عبد الخالق والذي وضح موقف الحزب من الأحداث، ثم اشتراك الشيوعيين في الوزارة دون استشارته.
أكد البيان ضرورة التحليل الماركسي للانقلاب، والاعتماد على تكتيكات الحزب الدفاعية حيث ثابر على تجميع الحركة الشعبية الواسعة حتى تصل إلى الحلف الديمقراطي. وكان الحزب يضع احتمال لجوء فئات اجتماعية بين قوى الجبهة الديمقراطية إلى انقلاب عسكري. وبناء على ذلك يرى أن ما وقع صباح 25 مايو انقلاب عسكري وليس عملا شعبيا مسلحا قامت به قوى الجبهة الوطنية الديمقراطية عن طريق قسمها المسلح. ولكن الانقلاب انتزع السلطة من يد الثورة المضادة. أما عن طبيعة الانقلاب فنبحث عنها في التكوين الطبقي لمجلس قيادة الثورة الذي باشر الانقلاب وفي التكوين الجديد للقيادات. ويشير هذا البحث إلى أن السلطة الجديدة تتشكل من فئة البرجوازية الصغيرة، وهي فئة مهتزة وليس في استطاعتها السير بحركة الثورة الديمقراطية بطريقة متصلة، بل ستعرضها للآلام ولأضرار واسعة. ولكن السلطة الجديدة بمصالحها النهائية جزء من قوى الجبهة الديمقراطية، ومن المؤكد أن تتأثر بالجو الديمقراطي العام. وسوف تلقى الفشل إذا حاولت أن تختط لنفسها طريقا يعادي قوى الثورة السودانية. وعلى الحزب دعم وحماية السلطة الجديدة من خطر الثورة المضادة، على أن يحتفظ بقدراته في نقدها وكشف منهج البرجوازية الصغيرة وتطلعاتها غير المؤسسة لنقل قيادة الثورة من يد الطبقة العاملة. وناشد السلطة تجنب التأييد الأجوف الذي يساعد العناصر الانتهازية الوصولية التي تتمسح بأعتاب كل سلطة.
ووافقت اللجنة المركزية بالإجماع على تلك الوثيقة. ولكنها رفضت بأغلبية 23 إلى 7 اقتراح عبد الخالق بعدم الاشتراك في حكومة الانقلاب، ورأت أن البيان كاف لتحديد العلاقة بين الحزب والسلطة الجديدة. ولكنها تحفظت على الصيغة المفروضة على الحزب باختيار الوزراء الذين يمثلونه. وعندما نقل جوزيف قرنق رأي الحزب هذا إلى بابكر عوض الله، قال له إن تكوين المجلس لم يتم على أساس تحالف سياسي وإنما على أساس الميزات الشخصية.
وعلقت سكرتارية اللجنة المركزية للحزب الشيوعي عام 1969 على ذلك الموقف فقالت إن قرار الاشتراك في حكومة الانقلاب جعل اللجنة المركزية أسيرة التكتيك الانقلابي، فأصبحت طرفا في صراع التصفيات والانقلابات الكامن في طبيعة انقلاب مايو. وكان قبول تعيين بابكر النور وهاشم العطا في مجلس قيادة الثورة دون التشاور مع تنظيم الضباط الأحرار قد فاقم من الخطأ. وقال محمد إبراهيم نقد السكرتير العام للحزب الشيوعي عام 1986 إن الخطأ الأول أنه عندما وقع الانقلاب وأعلن برنامجه من محتويات برنامج القوى الاشتراكية، وأصبح كأن التحالف يقف خلف الانقلاب، أن يعلن للجماهير بأنه ما عاد طرفا في ذلك التحالف. والخطأ الثاني قبول إشراك وزراء شيوعيين بالتعيين، مما أدى إلى فقدان الحزب لاستقلاليته وكان الواجب رفضه، وكان ذلك رأي عبد الخالق مساء 25 مايو.
فالذين يقولون إن الحزب الشيوعي دبر الانقلاب عليهم الرجوع إلى الوقائع، إلا إذا كانوا من الذين ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة، فأخذوا يكتبون التاريخ بأرجلهم.
ولم ينته الصراع عند ذلك الحد
كانت هناك عدة قوى سياسية تستبق الخطى نحو الجيش، حتى غدا الأمر في المراحل الأخيرة وكأنه سباق محموم. وكان الحزب الشيوعي قد بدأ منذ الخمسينيات في إقامة تنظيم سري داخل الجيش تحت إشراف عبد الخالق المباشر. وكان للضباط الأحرار أيضا تنظيم داخل الجيش يضم قوى سياسية مختلفة من شيوعيين وناصريين وبعثيين. (راجع كتاب محمد محجوب عثمان، الجيش والسياسة في السودان. 1998).
ومع اشتداد الأزمة السياسية، نشط الضباط الأحرار تدفع بهم قوى سياسية داخلية وخارجية. ولم تكن مصر بعيدة عن ما كان يجري في السودان، وكان لها تأثير من جانبين. من جانب كان جمال عبد الناصر نجما ساطعا في سماء السياسة العربية، واتخذ منه بعض الضباط نموذجا يحتذى به. من الجانب الآخر كانت المخابرات المصرية تمد لها خلجانا داخل الأحزاب السياسية بما فيها الحزب الشيوعي. وهناك مخابرات دول أخرى. وقد وصف عبد الخالق أحد قادة الحزب الذين كانت له صلات بمخابرات أجنبية قائلا عنه: He has glassy eyes أي له عيون زجاجية.
ومنذ أبريل 1969، بدأ بابكر عوض الله يضعف عمله في اللجنة السياسية لتحالف القوى الاشتراكية، وأخذ يقوي صلاته بالضباط الأحرار وبمصر. وطرح الضباط الأحرار على الحزب الشيوعي فكرة الانقلاب العسكري، واعترضت عليها اللجنة المركزية في دورة مارس 1969. ثم حمل الفكرة بابكر عوض الله وفاروق حمد الله وهو العقل المفكر والمنسق لانقلاب 25 مايو، وعرضاها على عبد الخالق. ورفض المكتب السياسي للمرة الثانية فكرة الانقلاب. وعندما طرح موضوع الانقلاب في اجتماع الضباط الأحرار، عارضه غالبيتهم. وقالت سكرتارية اللجنة المركزية للحزب الشيوعي عام 1969 إن تلك المواقف ظلت محصورة في إطار أجهزة الحزب. وقالت إن رفض المكتب السياسي للانقلاب لم تتبعه دعوة اللجنة المركزية لعرض الأمر عليها وتوحيد مجموع الحزب في مواجهة الفكر الانقلابي. وهذه ملاحظات ثاقبة.
ورغم تلك المعارضة، قرر الضباط القوميون تنفيذ الانقلاب منفردين لأنهم كانوا في مواقع مؤثرة في الجيش أساسا الاستخبارات والمظللات والمدرعات. وعلى الرغم من أنهم كانوا قلة ليس بالنسبة للمجتمع فحسب، بل حتى بالنسبة للجيش. إلا أن العزلة التي أحاطت بالنظام من جراء الأزمات، جعلت العملية الانقلابية تتم في يسر. وسقط النظام مثل حبة فاكهة متخثرة.
وبرز الانقلاب بواجهة يسارية صارخة. فرئيس الوزراء بابكر عوض الله كان مرشح اليسار لانتخابات رئاسة الجمهورية. وبيان الانقلاب الذي تلاه مـأخوذ من ميثاق القوى الاشتراكية، ولغته هي لغة اليسار العريض. وقائد الانقلاب نميري له مواقف مشهودة وله سمعة وطنية عالية بين صفوف القوات المسلحة قبل أن ينكشف وجهه الكالح الكريه. وكان اثنان من أعضاء مجلس قيادة الثورة من الضباط الشيوعيين وهما بابكر النور وهاشم العطا رغم أنهما لم يشاركا في العملية العسكرية التي نفذت الانقلاب. وكان مجلس الوزراء الذي أعلن في نفس اليوم يضم أربعة وزراء شيوعيين منهم اثنان من أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي وهما جوزيف قرنق ومحجوب عثمان، ومعهما فاروق أبو عيسى وموريس سدرة.
كان وضع الحزب الشيوعي في موقف لا يحسد عليه. فقد نفذ الضباط الأحرار الانقلاب. وكان تنظيمهم يسع تيارات سياسية شتى تلتقي في أهداف عامة، ولكنها تختلف بالضرورة في وسائل التكتيك للوصول لتلك الأهداف وأساليب تنفيذها. وكان التكتيك الانقلابي غالبا على التنظيم، وما كان لإشراك الشيوعيين فيه أن يغير من طابعه. ( تقييم السكرتارية المركزية للحزب الشيوعي لانقلاب 10 يوليو، يناير 1969).
تم تنفيذ الانقلاب وكان ذلك ضد طرح الحزب الشيوعي المعارض للانقلابات الذي ظل يدعو له بإلحاح في وثائقه. ولكن كان داخل الحزب تيار مؤثر يدعو للانقلاب. فكان الحزب الشيوعي في الواقع يضم تيارين في تنظيم واحد، ولم يحسم أمرها بعد. وجاء الانقلاب بواجهة يسارية وبرموز يسارية أيضا. ولكن جاء اختيار الشيوعيين للسلطة دون أخذ رأي الحزب وإنما بتعيين فوقي. فماذا هو فاعل في هذا الموقف البالغ التعقيد؟
اجتمعت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي مساء 25 مايو، وناقشت البيان السياسي الذي تلاه عبد الخالق والذي وضح موقف الحزب من الأحداث، ثم اشتراك الشيوعيين في الوزارة دون استشارته.
أكد البيان ضرورة التحليل الماركسي للانقلاب، والاعتماد على تكتيكات الحزب الدفاعية حيث ثابر على تجميع الحركة الشعبية الواسعة حتى تصل إلى الحلف الديمقراطي. وكان الحزب يضع احتمال لجوء فئات اجتماعية بين قوى الجبهة الديمقراطية إلى انقلاب عسكري. وبناء على ذلك يرى أن ما وقع صباح 25 مايو انقلاب عسكري وليس عملا شعبيا مسلحا قامت به قوى الجبهة الوطنية الديمقراطية عن طريق قسمها المسلح. ولكن الانقلاب انتزع السلطة من يد الثورة المضادة. أما عن طبيعة الانقلاب فنبحث عنها في التكوين الطبقي لمجلس قيادة الثورة الذي باشر الانقلاب وفي التكوين الجديد للقيادات. ويشير هذا البحث إلى أن السلطة الجديدة تتشكل من فئة البرجوازية الصغيرة، وهي فئة مهتزة وليس في استطاعتها السير بحركة الثورة الديمقراطية بطريقة متصلة، بل ستعرضها للآلام ولأضرار واسعة. ولكن السلطة الجديدة بمصالحها النهائية جزء من قوى الجبهة الديمقراطية، ومن المؤكد أن تتأثر بالجو الديمقراطي العام. وسوف تلقى الفشل إذا حاولت أن تختط لنفسها طريقا يعادي قوى الثورة السودانية. وعلى الحزب دعم وحماية السلطة الجديدة من خطر الثورة المضادة، على أن يحتفظ بقدراته في نقدها وكشف منهج البرجوازية الصغيرة وتطلعاتها غير المؤسسة لنقل قيادة الثورة من يد الطبقة العاملة. وناشد السلطة تجنب التأييد الأجوف الذي يساعد العناصر الانتهازية الوصولية التي تتمسح بأعتاب كل سلطة.
ووافقت اللجنة المركزية بالإجماع على تلك الوثيقة. ولكنها رفضت بأغلبية 23 إلى 7 اقتراح عبد الخالق بعدم الاشتراك في حكومة الانقلاب، ورأت أن البيان كاف لتحديد العلاقة بين الحزب والسلطة الجديدة. ولكنها تحفظت على الصيغة المفروضة على الحزب باختيار الوزراء الذين يمثلونه. وعندما نقل جوزيف قرنق رأي الحزب هذا إلى بابكر عوض الله، قال له إن تكوين المجلس لم يتم على أساس تحالف سياسي وإنما على أساس الميزات الشخصية.
وعلقت سكرتارية اللجنة المركزية للحزب الشيوعي عام 1969 على ذلك الموقف فقالت إن قرار الاشتراك في حكومة الانقلاب جعل اللجنة المركزية أسيرة التكتيك الانقلابي، فأصبحت طرفا في صراع التصفيات والانقلابات الكامن في طبيعة انقلاب مايو. وكان قبول تعيين بابكر النور وهاشم العطا في مجلس قيادة الثورة دون التشاور مع تنظيم الضباط الأحرار قد فاقم من الخطأ. وقال محمد إبراهيم نقد السكرتير العام للحزب الشيوعي عام 1986 إن الخطأ الأول أنه عندما وقع الانقلاب وأعلن برنامجه من محتويات برنامج القوى الاشتراكية، وأصبح كأن التحالف يقف خلف الانقلاب، أن يعلن للجماهير بأنه ما عاد طرفا في ذلك التحالف. والخطأ الثاني قبول إشراك وزراء شيوعيين بالتعيين، مما أدى إلى فقدان الحزب لاستقلاليته وكان الواجب رفضه، وكان ذلك رأي عبد الخالق مساء 25 مايو.
فالذين يقولون إن الحزب الشيوعي دبر الانقلاب عليهم الرجوع إلى الوقائع، إلا إذا كانوا من الذين ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة، فأخذوا يكتبون التاريخ بأرجلهم.
ولم ينته الصراع عند ذلك الحد
د/عبد الهادي إبراهيم- عدد الرسائل : 53
الإسم : : dozna.jeeran.com
تاريخ التسجيل : 05/08/2007
رد: تداعيات تاريخية الحزب الشيوعي وانقلاب 25 مايو....
( 5)
كانت هذه الحلقات في البداية خمس، ولكن رأيت أن أستشهد بمقاطع أطول من وثائق الحزب الشيوعي، لأن الأجيال الحديثة لم تطلع على تلك الوثائق، ولأن الصراع بين الحزب وسلطة مايو كان متشعباً إلى مدى بعيد. فليعذرني القارئ لهذه الاستطالة.
نتناول بعض الجوانب العملية في علاقة الحزب الشيوعي بنظام مايو. في الثاني من يونيو، اي بعد أسبوع من الانقلاب، خرج الموكب الذي يدعم الانقلاب، والذي دعا له اتحاد نقابات العمال، وشاركت فيه النقابات المهنية وقوى سياسية أخرى ضاقت بسياسة الأحزاب. وكان الموكب يسير تحت مظلة اليسار العريض. وخاطب الشفيع أحمد الشيخ الموكب بكل ثقله التاريخي. هكذا أعطى اليسار بكل تياراته أرضاً سياسية للنظام الجديد يرتكز عليها.
وفي التاسع من يونيو أصدرت حكومة الانقلاب بيان الجنوب الشهير. وطرح البيان الحكم الذاتي الإقليمي حلاً, وطالب بتنفيذ ثلاثة شروط لتنفيذه هي: (1) توفير وضمان الديمقراطية الكاملة للجماهير في الجنوب (2) وضع برنامج للتنمية حسب واقع الجنوب وقدرات البلاد (3) المساعدة في بناء حركة للقوى التقدمية في الجنوب. وتم دعم البيان بإعلان العفو العام.
ويمثل البيان قمة الجهد الفكري والسياسي للحزب الشيوعي. وأصدر المكتب السياسي للحزب الشيوعي كتيباً عام 1977 وضّح فيه ذلك الجهد، وقال: من من القادة السياسيين والعسكريين القابضين على السلطة اليوم (1977) في الجنوب ينكر أن مندوبي الحزب الشيوعي اتصلوا بهم فرداً فرداً داخل السودان وخارجه لإقناعهم بالحكم الذاتي الإقليمي والحل الديمقراطي السلمي لمشكلة الجنوب وخطر التمرد؟ ومَن مِن القادة الجنوبيين غير جوزيف قرنق الشيوعي كان يعلن رأيه لقادة التمرد علنا عندما كانوا يأوون إلى داره تحت جنح الليل في واو مؤكداً لهم أن طريق التمرد مسدود؟ وهل ينسى قادة جبهة الجنوب وحزب سانو جناح وليم دينق الاجتماعات المطولة التي عقدها معهم الحزب الشيوعي طيلة السنوات الأربع من 1965 إلى 1969 ليشرح لهم خطورة سعيهم لمكاسب عاجلة؟ وأعطى الموكب وبيان الجنوب أرضاً للانقلاب يقف عليها.
ثم بدأ الصراع مع سلطة مايو. في سبتمبر تم استدعاء أعضاء اللجنة المركزية إلى وزارة الداخلية لمقابلة الوزير فاروق حمد الله، وكان الاستدعاء بأن سلم كل واحد أمراً بوليسياً بالحضور. واستدعي معهم بعض أعضاء الحزب النشطين في العمل الجماهيري من غير أعضاء اللجنة المركزية. وكان الغرض من الاستدعاء بتلك الطريقة غير الكريمة عدة أشياء منها: إبراز دور السلطة المتفرد وعدم الاعتراف بتحالف يقوم على أساس متساوٍ بين أطرافه – الادعاء بعدم معرفة أعضاء اللجنة المركزية للتقليل من أهميتها – إبراز دور عبد الخالق أمام الكادر القيادي باعتباره عنصراً معوقاً للتعاون بين الحزب والضباط الأحرار. وكان أهم ما جاء في رد عبد الخالق أنهم مع الحوار، ولكن الاستدعاء بأمر قبض بوليسي لا يساعد على خلق الجو المناسب للحوار. وأبدى دهشته لعدم معرفة الوزير بأعضاء اللجنة المركزية مع أن سكرتيره محمد أحمد سليمان كان عضواً فيها، كما أن الأسماء عرفت بعد انتخابها بيوم واحد. وكان ذلك الاجتماع أحد الدروب الشائكة في تلك العلاقة.
وفي أكتوبر 1969، أدلى بابكر عوض الله بتصريح في ألمانيا الديمقراطية قال فيه إن الثورة لا يمكن أن تستمر بدون دور الشيوعيين. وسرعان ما انبرى له مجلس الثورة ببيان عنيف وانتقده بشدة، وشمل البيان هجوماً على الحزب الشيوعي. وكان رأي عبد الخالق أن يستقيل الوزراء الشيوعيون احتجاجاً على البيان، لأنه من الصعب التعاون مع نظام ينتقدهم في أجهزة الإعلام. ولكن الوزراء لم يستقيلوا لأن الصراع داخل الحزب كان يحكمه توازنات القوى المصطرعة. وكانت تلك بداية التراجع في علاقة الحزب مع السلطة.
وفي أواخر أكتوبر جرى تعديل وزاري أعفي بموجبه محجوب عثمان عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي وثلاثة من الوزراء الديمقراطيين، وحل محلهم أحمد سليمان عضو اللجنة المركزية والمتصدي للعمل الانقلابي، ودخل معه ثلاثة من أعضاء مجلس قيادة الثورة. واحتدم الصراع داخل الحزب حول التعديل، حتى أن المكتب السياسي ناقشه في خمسة اجتماعات متتالية. وأصدر بعدها بياناً عكس التوازن داخل الحزب. فقال إن التعديل لم يغير الطبيعة الاجتماعية للنظام، ولكن خطاب مجلس الثورة بعد خطاب بابكر عوض الله يحمل روح العداء للشيوعية. كما أن بيان المجلس حول التعديل جاء سلبياً.
وبرزت معركة أخرى عندما طالب بعض الشيوعيين العاملين في النقابات إلى تدخل الدولة لتغيير القيادات الرجعية في بعض النقابات ووضعها في يد القوى الديمقراطية. وكانت بعض العناصر في السلطة تدفع بذلك الاتجاه. فنشرت قيادة الحزب مقالاً في الشيوعي أوضحت فيه أن تحرير الجماهير العاملة من نفوذ الرجعية لا يتم بقرار فوقي تصدره السلطة مهما كانت نوعية هذه السلطة, ولكنه يتم بالصراع الطبقي والنضال الصبور. إن التنظيمات النقابية ليست أجهزة رسمية بل أدوات شعبية ويجب أن تظل كذلك. وقد ناضل الحزب الشيوعي في كافة الظروف لتحافظ النقابات على تلك الصفة. وكانت تقاليد الحزب ترى دائما أن النضال ضد القيادات الانتهازية ليس باستعداء السلطة, بل بنضال فرع الحزب بين جماهير النقابة المعنية. (مجلة الشيوعي، 134).
وانفجرت أزمة أخرى عندما أصدر المكتب السياسي بياناً جماهيرياً في نهاية ديسمبر 1969 بمناسبة ذكرى استقلال السودان. وقد درج الحزب على إصدار مثل هذا البيان منذ عام 1957. فتم استدعاء أعضاء المكتب السياسي لمقابلة بابكر عوض الله، الذي أكد لهم أن الأحزاب قد حلت، وأن السلطة قد تغاضت في الماضي عن بعض ممارسات الحزب، أما أن يصدر بيان جماهيري موقع من المكتب السياسي فأمر غير مقبول.
وفي نفس الشهر أعلن مجلس الثورة عن تكوين الاتحاد الاشتراكي السوداني تنظيماً سياسياً للسلطة. ويوضح هذا الإعلان اتجاه السلطة لاحتكار العمل الجماهيري. وهذه تجربة مألوفة في بلدان العالم الثالث، حيث سعت العديد من الأنظمة إلى تكوين منظمات سلطوية فوقية على حساب المنظمات الجماهيرية
كانت هذه الحلقات في البداية خمس، ولكن رأيت أن أستشهد بمقاطع أطول من وثائق الحزب الشيوعي، لأن الأجيال الحديثة لم تطلع على تلك الوثائق، ولأن الصراع بين الحزب وسلطة مايو كان متشعباً إلى مدى بعيد. فليعذرني القارئ لهذه الاستطالة.
نتناول بعض الجوانب العملية في علاقة الحزب الشيوعي بنظام مايو. في الثاني من يونيو، اي بعد أسبوع من الانقلاب، خرج الموكب الذي يدعم الانقلاب، والذي دعا له اتحاد نقابات العمال، وشاركت فيه النقابات المهنية وقوى سياسية أخرى ضاقت بسياسة الأحزاب. وكان الموكب يسير تحت مظلة اليسار العريض. وخاطب الشفيع أحمد الشيخ الموكب بكل ثقله التاريخي. هكذا أعطى اليسار بكل تياراته أرضاً سياسية للنظام الجديد يرتكز عليها.
وفي التاسع من يونيو أصدرت حكومة الانقلاب بيان الجنوب الشهير. وطرح البيان الحكم الذاتي الإقليمي حلاً, وطالب بتنفيذ ثلاثة شروط لتنفيذه هي: (1) توفير وضمان الديمقراطية الكاملة للجماهير في الجنوب (2) وضع برنامج للتنمية حسب واقع الجنوب وقدرات البلاد (3) المساعدة في بناء حركة للقوى التقدمية في الجنوب. وتم دعم البيان بإعلان العفو العام.
ويمثل البيان قمة الجهد الفكري والسياسي للحزب الشيوعي. وأصدر المكتب السياسي للحزب الشيوعي كتيباً عام 1977 وضّح فيه ذلك الجهد، وقال: من من القادة السياسيين والعسكريين القابضين على السلطة اليوم (1977) في الجنوب ينكر أن مندوبي الحزب الشيوعي اتصلوا بهم فرداً فرداً داخل السودان وخارجه لإقناعهم بالحكم الذاتي الإقليمي والحل الديمقراطي السلمي لمشكلة الجنوب وخطر التمرد؟ ومَن مِن القادة الجنوبيين غير جوزيف قرنق الشيوعي كان يعلن رأيه لقادة التمرد علنا عندما كانوا يأوون إلى داره تحت جنح الليل في واو مؤكداً لهم أن طريق التمرد مسدود؟ وهل ينسى قادة جبهة الجنوب وحزب سانو جناح وليم دينق الاجتماعات المطولة التي عقدها معهم الحزب الشيوعي طيلة السنوات الأربع من 1965 إلى 1969 ليشرح لهم خطورة سعيهم لمكاسب عاجلة؟ وأعطى الموكب وبيان الجنوب أرضاً للانقلاب يقف عليها.
ثم بدأ الصراع مع سلطة مايو. في سبتمبر تم استدعاء أعضاء اللجنة المركزية إلى وزارة الداخلية لمقابلة الوزير فاروق حمد الله، وكان الاستدعاء بأن سلم كل واحد أمراً بوليسياً بالحضور. واستدعي معهم بعض أعضاء الحزب النشطين في العمل الجماهيري من غير أعضاء اللجنة المركزية. وكان الغرض من الاستدعاء بتلك الطريقة غير الكريمة عدة أشياء منها: إبراز دور السلطة المتفرد وعدم الاعتراف بتحالف يقوم على أساس متساوٍ بين أطرافه – الادعاء بعدم معرفة أعضاء اللجنة المركزية للتقليل من أهميتها – إبراز دور عبد الخالق أمام الكادر القيادي باعتباره عنصراً معوقاً للتعاون بين الحزب والضباط الأحرار. وكان أهم ما جاء في رد عبد الخالق أنهم مع الحوار، ولكن الاستدعاء بأمر قبض بوليسي لا يساعد على خلق الجو المناسب للحوار. وأبدى دهشته لعدم معرفة الوزير بأعضاء اللجنة المركزية مع أن سكرتيره محمد أحمد سليمان كان عضواً فيها، كما أن الأسماء عرفت بعد انتخابها بيوم واحد. وكان ذلك الاجتماع أحد الدروب الشائكة في تلك العلاقة.
وفي أكتوبر 1969، أدلى بابكر عوض الله بتصريح في ألمانيا الديمقراطية قال فيه إن الثورة لا يمكن أن تستمر بدون دور الشيوعيين. وسرعان ما انبرى له مجلس الثورة ببيان عنيف وانتقده بشدة، وشمل البيان هجوماً على الحزب الشيوعي. وكان رأي عبد الخالق أن يستقيل الوزراء الشيوعيون احتجاجاً على البيان، لأنه من الصعب التعاون مع نظام ينتقدهم في أجهزة الإعلام. ولكن الوزراء لم يستقيلوا لأن الصراع داخل الحزب كان يحكمه توازنات القوى المصطرعة. وكانت تلك بداية التراجع في علاقة الحزب مع السلطة.
وفي أواخر أكتوبر جرى تعديل وزاري أعفي بموجبه محجوب عثمان عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي وثلاثة من الوزراء الديمقراطيين، وحل محلهم أحمد سليمان عضو اللجنة المركزية والمتصدي للعمل الانقلابي، ودخل معه ثلاثة من أعضاء مجلس قيادة الثورة. واحتدم الصراع داخل الحزب حول التعديل، حتى أن المكتب السياسي ناقشه في خمسة اجتماعات متتالية. وأصدر بعدها بياناً عكس التوازن داخل الحزب. فقال إن التعديل لم يغير الطبيعة الاجتماعية للنظام، ولكن خطاب مجلس الثورة بعد خطاب بابكر عوض الله يحمل روح العداء للشيوعية. كما أن بيان المجلس حول التعديل جاء سلبياً.
وبرزت معركة أخرى عندما طالب بعض الشيوعيين العاملين في النقابات إلى تدخل الدولة لتغيير القيادات الرجعية في بعض النقابات ووضعها في يد القوى الديمقراطية. وكانت بعض العناصر في السلطة تدفع بذلك الاتجاه. فنشرت قيادة الحزب مقالاً في الشيوعي أوضحت فيه أن تحرير الجماهير العاملة من نفوذ الرجعية لا يتم بقرار فوقي تصدره السلطة مهما كانت نوعية هذه السلطة, ولكنه يتم بالصراع الطبقي والنضال الصبور. إن التنظيمات النقابية ليست أجهزة رسمية بل أدوات شعبية ويجب أن تظل كذلك. وقد ناضل الحزب الشيوعي في كافة الظروف لتحافظ النقابات على تلك الصفة. وكانت تقاليد الحزب ترى دائما أن النضال ضد القيادات الانتهازية ليس باستعداء السلطة, بل بنضال فرع الحزب بين جماهير النقابة المعنية. (مجلة الشيوعي، 134).
وانفجرت أزمة أخرى عندما أصدر المكتب السياسي بياناً جماهيرياً في نهاية ديسمبر 1969 بمناسبة ذكرى استقلال السودان. وقد درج الحزب على إصدار مثل هذا البيان منذ عام 1957. فتم استدعاء أعضاء المكتب السياسي لمقابلة بابكر عوض الله، الذي أكد لهم أن الأحزاب قد حلت، وأن السلطة قد تغاضت في الماضي عن بعض ممارسات الحزب، أما أن يصدر بيان جماهيري موقع من المكتب السياسي فأمر غير مقبول.
وفي نفس الشهر أعلن مجلس الثورة عن تكوين الاتحاد الاشتراكي السوداني تنظيماً سياسياً للسلطة. ويوضح هذا الإعلان اتجاه السلطة لاحتكار العمل الجماهيري. وهذه تجربة مألوفة في بلدان العالم الثالث، حيث سعت العديد من الأنظمة إلى تكوين منظمات سلطوية فوقية على حساب المنظمات الجماهيرية
د/عبد الهادي إبراهيم- عدد الرسائل : 53
الإسم : : dozna.jeeran.com
تاريخ التسجيل : 05/08/2007
رد: تداعيات تاريخية الحزب الشيوعي وانقلاب 25 مايو....
( 6 )
وفي مارس انفجرت أزمة جديدة لا تخلو من حدة، فقد تجمعت في الجزيرة أبا معارضة بقيادة الإمام الهادي والشريف حسين الهندي والاخوان المسلمين، وسلحوا أتباعهم وتخندقوا في الجزيرة أبا لمواجهة مسلحة مع النظام، ولكن هل باستطاعة المعارضة مواجهة النظام الذي تسنده القوات المسلحة بنفر ضعيف التسليح والتأهيل؟ وهل استطاعت المعارضة ان تكسب جانباً من القوات المسلحة؟ وماذا عن الشارع، هل سيخرج أم يظل ساكناً ينتظر النتائج؟ فإذا لم تحسب المعارضة تلك الاحتمالات، فإن ما قامت به يكون عملاً انتحارياً.
وانزعج النظام للمواجهة العسكرية التي لم يحسب لها حساباً ولم يدر حجمها. فجند لها حملة واستعان بسلاح الطيران المصري الذي دك الجزيرة أبا وتم سحق المقاومة في معركة غير متكافئة، ومن فوق النصر العسكري أخذ النظام في تصفية بعض حساباته السياسية. فنفى عبد الخالق إلى مصر في مطلع أبريل، وقال عبد الخالق ساخراً من ذلك النفي: أنا خليفة الزبير باشا في النفي، وفي مصر التقى عبد الخالق مع الرئيس جمال عبد الناصر الذي قال له ان مصر وطنه ويمكنه ان يبقى فيه ما شاء. فقال له عبد الخالق أنا أربأ بمصر ان تكون منفى للوطنيين، وانه يرغب في العودة للسودان، وعاد بالفعل بعد أسابيع، وهنا تستوقفنا عدة أمور منها، لماذا نفى عبد الخالق إلى مصر دون سائر البلاد العربية الأخرى؟ وهل كانت مصر على علم بذلك النفي؟ وما هو نفوذ مصر على السودان حتى يعيد عبد الناصر بإرجاع عبد الخالق إلى السودان وينفذ وعده؟ ونفى مع عبد الخالق إلى مصر أيضاً الصادق المهدي.
واجتمعت اللجنة المركزية في اليوم التالي لنفي عبد الخالق، وقال أحمد سليمان ومحاسن عبد العال ان نفي عبد الخالق تم لأسباب شخصية وليس له علاقة بالحزب، وهددا بعدم الالتزام بقرارات اللجنة إذا صدر منها بيان يهاجم السلطة، ونتيجة لذلك صدر بيان هزيل من اللجنة المركزية يناشد السلطة بمراجعة موقفها، فقامت منظمات الحزب في منطقة الخرطوم وأصدرت بياناً آخر، جاء فيه ان اعتقال عبد الخالق عمل موجه ضد الحزب، وانه رد فعل لمذكرة اللجنة المركزية في 18/3/1970 لمجلس قيادة الثورة حول أحداث الجزيرة أبا، وان اعتقال عبد الخالق يكشف التطور الجديد لأساليب الخيارات، كما يكشف عن غفلة الحزب تجاهها.
وفي أبريل قامت السلطة بحل اتحاد الشباب والاتحاد النسائي وهما تنظيمان مستقلان ولكن للحزب الشيوعي نفوذ كبير فيهما، ويرى عبد الخالق ان تلك الإجراءات تشكل مخططات متكاملة تهدف إلى عزل المنظمات الجماهيرية والديمقراطية عن الحزب الشيوعي ووضعها تحت تصرف القيادة العسكرية للبرجوازية الصغيرة، أما المرحلة التالية فهي ترويض الحزب الشيوعي على قبول وضع ضعيف طالما نجحت الصيغة الأولى باختيار بعض أعضائه وزراء، والنتيجة ان هناك جواسيس داخل الحزب يعملون لصالح أجهزة الأمن، وسوف تتواصل هذه الصيغة بعد 25 مايو 1970، حيث يتم طرح ميثاق لتنظيم شعبي به بعض الشيوعيين المعينين، وقال انه من الضروري تصفية الاتجاهات اليمينية الانتهازية داخل الحزب، ودعا إلى عقد المؤتمر التداولي قبل 25 مايو، والتحضير لعقد المؤتمر الخامس لتصفية الاتجاهات اليمينية الانتهازية داخل الحزب، وانتهى قائلاً: أتابع في الصحف تصريحات المصفى القانوني للحزب الشيوعي، أو يهوذا الشيوعيين، السيد الوزير أحمد سليمان.. إلى متى يحتمل الشيوعيون هذا الدمل في جسدهم؟ (رسالة عبد الخالق إلى التيجاني الطيب منشورة في كتابي، الحزب الشيوعي وانقلاب 25 مايو).
وانفجر صراع حول قوانين المصادرة والتأميم التي أعلنتها السلطة في 25 مايو 1970، وأثارت جدلاً بين مختلف القوى السياسية، وما كان ممكنا مناقشة الأمر في الحزب في جو الصراع المحتدم، فانتقل الصراع إلى الصحف، فكتب عبد الخالق في جريدة أخبار الأسبوع في يوليو بعد عودته من المنفى يقول بضرورة التمييز بين التأميم والمصادرة، فالتأميم في البلدان المتخلفة يستهدف أمرين، الأول وضع يد الدولة على أنشطة بعينها بهدف توفير فائض اقتصادي يسهم في تحقيق خطة التنمية، والثاني وضع يد الدولة على مراكز استراتيجية في الاقتصاد الوطني لتحريره من القبضة الأجنبية، ويشمل هذا بالنسبة للسودان المصارف والتجارة الخارجية وشركات التأمين، أما المصادرة في هذه المرحلة الوسطية من الثورة الوطنية الديمقراطية، فيعتبر عقوبة اقتصادية على الرأسماليين الذين يخرجون على قوانين الدولة الاقتصادية يضعفون بذلك التخطيط المركزي، وبما ان هذا الإجراء خطير في وقت مازالت فيه العناصر الرأسمالية مدعوة للإسهام في ميدان التنمية، فيجب ان تحاط المصادرة بإجراءات قانونية، كما ان التمويل الذي يقوم به الرأسماليون المنتشرون في كل بقاع البلاد ومواصلته أمر حيوي، لا بالنسبة لاقتصاد البلاد فحسب بل بالنسبة لأمن السلطة ومستقبلها.
فانبرى عمر مصطفى المكي عضو المكتب السياسي للرد على عبد الخالق، فقال ان الثورة لا تعتمد في إجراءاتها على الفهم التقليدي للقانون وانما على شرعية أعمالها من ثوريتها، وما حدث صباح 25 مايو لم يكن عملاً قانونياً بالمعنى التقليدي، والشرعية الثورية تجيز أي إجراء يخدم مستقبل الثورة، كما ان إجراءات المصادرة تخطت ثورية الحزب الشيوعي نفسه.
هكذا احتدم الصراع الأيديولوجي، وافترقت السبل في تناول القضايا التي تفرزها الأوضاع السياسية تباعاً، وفي هذا المناخ عقد المؤتمر التداولي، ولعله أهم مؤتمر في تاريخ الحزب الشيوعي
وفي مارس انفجرت أزمة جديدة لا تخلو من حدة، فقد تجمعت في الجزيرة أبا معارضة بقيادة الإمام الهادي والشريف حسين الهندي والاخوان المسلمين، وسلحوا أتباعهم وتخندقوا في الجزيرة أبا لمواجهة مسلحة مع النظام، ولكن هل باستطاعة المعارضة مواجهة النظام الذي تسنده القوات المسلحة بنفر ضعيف التسليح والتأهيل؟ وهل استطاعت المعارضة ان تكسب جانباً من القوات المسلحة؟ وماذا عن الشارع، هل سيخرج أم يظل ساكناً ينتظر النتائج؟ فإذا لم تحسب المعارضة تلك الاحتمالات، فإن ما قامت به يكون عملاً انتحارياً.
وانزعج النظام للمواجهة العسكرية التي لم يحسب لها حساباً ولم يدر حجمها. فجند لها حملة واستعان بسلاح الطيران المصري الذي دك الجزيرة أبا وتم سحق المقاومة في معركة غير متكافئة، ومن فوق النصر العسكري أخذ النظام في تصفية بعض حساباته السياسية. فنفى عبد الخالق إلى مصر في مطلع أبريل، وقال عبد الخالق ساخراً من ذلك النفي: أنا خليفة الزبير باشا في النفي، وفي مصر التقى عبد الخالق مع الرئيس جمال عبد الناصر الذي قال له ان مصر وطنه ويمكنه ان يبقى فيه ما شاء. فقال له عبد الخالق أنا أربأ بمصر ان تكون منفى للوطنيين، وانه يرغب في العودة للسودان، وعاد بالفعل بعد أسابيع، وهنا تستوقفنا عدة أمور منها، لماذا نفى عبد الخالق إلى مصر دون سائر البلاد العربية الأخرى؟ وهل كانت مصر على علم بذلك النفي؟ وما هو نفوذ مصر على السودان حتى يعيد عبد الناصر بإرجاع عبد الخالق إلى السودان وينفذ وعده؟ ونفى مع عبد الخالق إلى مصر أيضاً الصادق المهدي.
واجتمعت اللجنة المركزية في اليوم التالي لنفي عبد الخالق، وقال أحمد سليمان ومحاسن عبد العال ان نفي عبد الخالق تم لأسباب شخصية وليس له علاقة بالحزب، وهددا بعدم الالتزام بقرارات اللجنة إذا صدر منها بيان يهاجم السلطة، ونتيجة لذلك صدر بيان هزيل من اللجنة المركزية يناشد السلطة بمراجعة موقفها، فقامت منظمات الحزب في منطقة الخرطوم وأصدرت بياناً آخر، جاء فيه ان اعتقال عبد الخالق عمل موجه ضد الحزب، وانه رد فعل لمذكرة اللجنة المركزية في 18/3/1970 لمجلس قيادة الثورة حول أحداث الجزيرة أبا، وان اعتقال عبد الخالق يكشف التطور الجديد لأساليب الخيارات، كما يكشف عن غفلة الحزب تجاهها.
وفي أبريل قامت السلطة بحل اتحاد الشباب والاتحاد النسائي وهما تنظيمان مستقلان ولكن للحزب الشيوعي نفوذ كبير فيهما، ويرى عبد الخالق ان تلك الإجراءات تشكل مخططات متكاملة تهدف إلى عزل المنظمات الجماهيرية والديمقراطية عن الحزب الشيوعي ووضعها تحت تصرف القيادة العسكرية للبرجوازية الصغيرة، أما المرحلة التالية فهي ترويض الحزب الشيوعي على قبول وضع ضعيف طالما نجحت الصيغة الأولى باختيار بعض أعضائه وزراء، والنتيجة ان هناك جواسيس داخل الحزب يعملون لصالح أجهزة الأمن، وسوف تتواصل هذه الصيغة بعد 25 مايو 1970، حيث يتم طرح ميثاق لتنظيم شعبي به بعض الشيوعيين المعينين، وقال انه من الضروري تصفية الاتجاهات اليمينية الانتهازية داخل الحزب، ودعا إلى عقد المؤتمر التداولي قبل 25 مايو، والتحضير لعقد المؤتمر الخامس لتصفية الاتجاهات اليمينية الانتهازية داخل الحزب، وانتهى قائلاً: أتابع في الصحف تصريحات المصفى القانوني للحزب الشيوعي، أو يهوذا الشيوعيين، السيد الوزير أحمد سليمان.. إلى متى يحتمل الشيوعيون هذا الدمل في جسدهم؟ (رسالة عبد الخالق إلى التيجاني الطيب منشورة في كتابي، الحزب الشيوعي وانقلاب 25 مايو).
وانفجر صراع حول قوانين المصادرة والتأميم التي أعلنتها السلطة في 25 مايو 1970، وأثارت جدلاً بين مختلف القوى السياسية، وما كان ممكنا مناقشة الأمر في الحزب في جو الصراع المحتدم، فانتقل الصراع إلى الصحف، فكتب عبد الخالق في جريدة أخبار الأسبوع في يوليو بعد عودته من المنفى يقول بضرورة التمييز بين التأميم والمصادرة، فالتأميم في البلدان المتخلفة يستهدف أمرين، الأول وضع يد الدولة على أنشطة بعينها بهدف توفير فائض اقتصادي يسهم في تحقيق خطة التنمية، والثاني وضع يد الدولة على مراكز استراتيجية في الاقتصاد الوطني لتحريره من القبضة الأجنبية، ويشمل هذا بالنسبة للسودان المصارف والتجارة الخارجية وشركات التأمين، أما المصادرة في هذه المرحلة الوسطية من الثورة الوطنية الديمقراطية، فيعتبر عقوبة اقتصادية على الرأسماليين الذين يخرجون على قوانين الدولة الاقتصادية يضعفون بذلك التخطيط المركزي، وبما ان هذا الإجراء خطير في وقت مازالت فيه العناصر الرأسمالية مدعوة للإسهام في ميدان التنمية، فيجب ان تحاط المصادرة بإجراءات قانونية، كما ان التمويل الذي يقوم به الرأسماليون المنتشرون في كل بقاع البلاد ومواصلته أمر حيوي، لا بالنسبة لاقتصاد البلاد فحسب بل بالنسبة لأمن السلطة ومستقبلها.
فانبرى عمر مصطفى المكي عضو المكتب السياسي للرد على عبد الخالق، فقال ان الثورة لا تعتمد في إجراءاتها على الفهم التقليدي للقانون وانما على شرعية أعمالها من ثوريتها، وما حدث صباح 25 مايو لم يكن عملاً قانونياً بالمعنى التقليدي، والشرعية الثورية تجيز أي إجراء يخدم مستقبل الثورة، كما ان إجراءات المصادرة تخطت ثورية الحزب الشيوعي نفسه.
هكذا احتدم الصراع الأيديولوجي، وافترقت السبل في تناول القضايا التي تفرزها الأوضاع السياسية تباعاً، وفي هذا المناخ عقد المؤتمر التداولي، ولعله أهم مؤتمر في تاريخ الحزب الشيوعي
د/عبد الهادي إبراهيم- عدد الرسائل : 53
الإسم : : dozna.jeeran.com
تاريخ التسجيل : 05/08/2007
رد: تداعيات تاريخية الحزب الشيوعي وانقلاب 25 مايو....
( الاخيرة )
انعقد المؤتمر التداولي في 21 أغسطس 1970. ولعله أهم مؤتمر في تاريخ الحزب الشيوعي. فقد انعقد بعد صراع أيديولوجي منذ عام 1964، وتصاعد بعد 25 مايو. ولم يكن الصراع يدور حول قضايا نظرية بحتة بعدما دخلت السلطة طرفا فيه، بل تدخلت قوى خارجية ومخابرات. وكان على المؤتمر أن يحسم الصراع النظري تنظيميا. فكانت التعقيدات والظروف تحف بالمؤتمر من عدة جوانب. فكان صراعا حادا ليس فيه منطقة رمادية.
وكان عبد الخالق يدعم من منفاه في مصر ضرورة عقد المؤتمر من أجل: "حسم النزاع الداخلي في حزبنا لصالح الاتجاه الماركسي، وأعني كلمة حسم حقيقة... فثمة صراعات مبدئية في الحزب الشيوعي، لا مجرد تيارات شخصية كما صورتها العناصر المتكتلة... وفي اعتقادي أن الحزب لن يستطيع اجتياز هذه المرحلة من غير أن يطهر صفوفه من العناصر اليمينية والبوليسية ومن كل العناصر المهتزة فكريا... إن الاتجاه البرجوازي الأبوي عند بعض كادر الحزب الرامي إلى المصالحة حفاظا على الوحدة، يؤدي في النهاية إلى تسميم جسد الحزب وتجريده من العمل ومن إرادة الحركة. وهذا الاتجاه موجود بين أضعف قطاعات حزبنا، وأعني قطاع اللجنة المركزية، وظللنا نعاني من سلبياته منذ المؤتمر الرابع إلى يومنا هذا".
وقدمت في المؤتمر مساهمات مكتوبة ومداخلات شفاهية. وكانت بلورة للخلافات التي دارت طوال السنوات المنصرمة، ولكن سنقف وقفة خاصة عند مساهمة عبد الخالق، فهو المركز الأساسي في الصراع، وله ثقله الفكري والتنظيمي والتاريخي. كتب عنه المفكر العربي هادي العلوي يقول: "وعبد الخالق محجوب أقل أدلجة من غيره، لأن الغالب عليه كان وعي العصر متماهيا في قلب برولتاري ذي خصوصية سودانية... وكان عبد الخالق محجوب شيوعي الوعي أكثر مما هو شيوعي الإيمان. ولولا أن الإمبريالية وعملاءها الناطقين بالعربية لم تنصب له ذلك الكمين الغادر بين لندن وطرابلس والخرطوم، لكنا اليوم نلتف حول جمهورية نادرة المثال في منطقتنا. (مجلة الحرية 29\8\1991). وكانت السلطة والعناصر المؤيدة لها تدرك ذلك الثقل، فاستهدفوه باستمرار: اعتقلوه ونفوه، ثم اعتقلوه مرة ثانية، ثم اعتقلوه مرة ثالثة وأعدموه، فالوقوف عند مساهمته له مايبرره خصوصا وأنها آخر وقفة له في تجمع حزبي. أما الفئات التي وقفت ضده فقد اندثروا في رحى الصراع الطبقي وكنسهم التاريخ في ترابه.
قال عبد الخالق إن الحزب كان يتحول بالتدريج في مجري تاريخه الطويل إلى الأيديولوجية الشيوعية خلال الصراع ضد أفكار الفئات التي تشترك معه في نقطة أو أكثر في المراحل المختلفة للثورة السودانية. ويواجه الحزب اليوم اتجاها يمينيا شمل قضايا الاستراتيجية والتكتيك، ووصل مستوى تصفية الحزب ودوره في المجتمع. وقد غذت هذا الاتجاه اليميني المظاهر السلبية بعد دحر ثورة أكتوبر، واتسع نطاقه بعد 25 مايو. ويقول إن نشاط الحزب الشيوعي مع الفئات الأخرى لا يعني التخلي عن أيديولوجية الطبقة العاملة وتدريب طلائع الجماهير الكادحة على أسس الماركسية. لذلك يطرح الحزب قضايا النضال السياسي والتحالف ضد أعداء الثورة، ويوضح في الوقت الفوارق في الجبهة الأيديولوجية. أما الاتجاه اليميني فقد اهتم منذ البداية بقدرات ذلك القسم من البرجوازية الصغيرة التي استلمت السلطة، عازلا تلك القدرات عن الخط الحقيقي للطبقة العاملة والجماهير المتحالفة معها. والمطروح الآن هو حماية الثورة في وجه المحيط المتلاطم الأمواج وليس السفسطة حول إمكانيات مرتقبة للنشاط الثوري المستقل للفئات المتقدمة من البرجوازية الصغيرة. ويكمن خطر الاتجاه اليميني في وجوده قريبا من السلطة، وفي طرحه باسم الماركسية لمفاهيم ومبررات لسلبيات البرجوازية الصغيرة التقدمية. ويتفاقم هذا الوضع بتدخل تلك العناصر من السلطة في عملية الصراع الداخلي. وذكر عبد الخالق بعض مواقف الاتجاه اليميني من نقد النظام، أهمها رفضه الدفاع عن الحقوق الديمقراطية للشعب في موضوع الأمر الجمهوري الرابع. وينتهي عبد الخالق قائلا: "نحن كشيوعيين لا نقبل نظرية الفئة التي تقبض على السلطة ثم بعد ذلك ترجع إلى الجماهير. في اعتقادي أن هذا موقف أيديولوجي ثابت. وقد تطورت الشيوعية كعلم في الصراع ضد هذه النظرية.
ثم طرحت على المؤتمر القرارات للتصويت عليها. وفاز مشروع القرار المقدم من عبد الخالق بأغلبية 69 ضد 15. ومن ضمن ما اشتملت عليه القرارات الآتي: يتحالف الحزب مع السلطة ويدعمها في وجه الرجعية والاستعمار – يناضل بثبات لنشر أهداف الثورة بين الجماهير ويدفع نشاطها لتحقيق حكومة الجبهة الوطنية الديمقراطية – يدعم إيجابيات السلطة ويناضل ضد سلبياتها التي تحول دون وضع أدوات الثورة في يد الجماهير. ودعا المؤتمر اللجنة المركزية للتحضير للمؤتمر الخامس.
وبعد انتهاء المؤتمر مباشرة بدأ بعض أعضاء اللجنة المركزية اتصالات جانبية، وفي 21 سبتمبر صدر البيان الذي وقع عليه 12 من أعضاء اللجنة المركزية. وصدر بيان آخر وقع عليه حوالي 50 من كادر الحزب. فكان ذلك انقساما واضح القسمات والمعالم. فاجتمعت اللجنة المركزية في 25 سبتمبر وأصدرت بيانا مفصلا ناقشت فيه بيان الانقسام. وقالت إن الصراع ليس بين من يؤيد النظام ومن يعارضه، بل بين تأييد أجوف وتأييد يستهدف إنجاز مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية وواصلت العناصر المنقسمة نشاطها فقررت اللجنة المركزية فصلهم.
وكان أثر الانقسام على الحزب كبيرا. لخصته سكرتارية اللجنة المركزية عام 1996 قائلة: خرج الحزب مرهقا من معركة الانقسام ومواقعه وكوادره مكشوفون أمام السلطة بعد أن سلمها الانقساميون كل أسراره. وأدى الانقسام دوره المرسوم سلفا من إضعاف الحزب وشل حركته وسط الجماهير، ولكنه فشل فشلا ماحقا في تصفية الحزب.
وفي أكتوبر أصدرت اللجنة المركزية بيانا حول الاتحاد الثلاثي الذي وقعه السادات والقذافي ونميري. وانتقدت ذلك الاتحاد ونبهت إلى خطر جهاز الأمن المصري على حركة الثورة في السودان. وكان البيان تعبيرا عن الموقف المستقل للحزب الشيوعي. فوجهت السلطة ضربتها للحزب.
وفي 16 نوفمبر وقع الانقلاب الذي أقصى بابكر النور وفاروق حمد الله وهاشم العطا من مجلس قيادة الثورة. واعتقل عبد الخالق في نفس اليوم، واقتيد إلى القيادة العامة، حيث وجد نفسه أمام اجتماع لمجلس الثورة أشبه بالمحكمة العسكرية برئاسة نميري الذي وجه لعبد الخالق قائمة اتهامات شملت معارضة ثورة مايو ووضع العراقيل في طريقها قبل وبعد انتصارها، ومعارضة ضرب الجزيرة أبا، ومعارضة التأميم والمصادرة، ومعارضة ميثاق طرابلس، ومعارضة الأمر الجمهوري الرابع. ثم قال له قرر مجلس الثورة اعتقاله وإنه لن يرى النور بعد اليوم. وتدخل مأمون عوض أبوزيد وأبو القاسم محمد إبراهيم بحديث مبتذل، فزجر بعضه وتجاهل بعضه الآخر.
وهكذا انفتح الطريق لانقلاب 19 يوليو وهذا موضوع لحديث آخر. ولعله قد أتضح من المقالات السابقة العلاقة المعقدة بين الحزب الشيوعي وانقلاب 25 مايو، وكانت علائقه جد معقدة ومتشابكة، وليست بالسذاجة التي تصورها بعض الأقلام التي تنبش في نفايات الأحداث مثل الكلاب الضالة. فهؤلاء الكتاب ينتمون إلى فئة الزواحف والعياذ بالله.
انعقد المؤتمر التداولي في 21 أغسطس 1970. ولعله أهم مؤتمر في تاريخ الحزب الشيوعي. فقد انعقد بعد صراع أيديولوجي منذ عام 1964، وتصاعد بعد 25 مايو. ولم يكن الصراع يدور حول قضايا نظرية بحتة بعدما دخلت السلطة طرفا فيه، بل تدخلت قوى خارجية ومخابرات. وكان على المؤتمر أن يحسم الصراع النظري تنظيميا. فكانت التعقيدات والظروف تحف بالمؤتمر من عدة جوانب. فكان صراعا حادا ليس فيه منطقة رمادية.
وكان عبد الخالق يدعم من منفاه في مصر ضرورة عقد المؤتمر من أجل: "حسم النزاع الداخلي في حزبنا لصالح الاتجاه الماركسي، وأعني كلمة حسم حقيقة... فثمة صراعات مبدئية في الحزب الشيوعي، لا مجرد تيارات شخصية كما صورتها العناصر المتكتلة... وفي اعتقادي أن الحزب لن يستطيع اجتياز هذه المرحلة من غير أن يطهر صفوفه من العناصر اليمينية والبوليسية ومن كل العناصر المهتزة فكريا... إن الاتجاه البرجوازي الأبوي عند بعض كادر الحزب الرامي إلى المصالحة حفاظا على الوحدة، يؤدي في النهاية إلى تسميم جسد الحزب وتجريده من العمل ومن إرادة الحركة. وهذا الاتجاه موجود بين أضعف قطاعات حزبنا، وأعني قطاع اللجنة المركزية، وظللنا نعاني من سلبياته منذ المؤتمر الرابع إلى يومنا هذا".
وقدمت في المؤتمر مساهمات مكتوبة ومداخلات شفاهية. وكانت بلورة للخلافات التي دارت طوال السنوات المنصرمة، ولكن سنقف وقفة خاصة عند مساهمة عبد الخالق، فهو المركز الأساسي في الصراع، وله ثقله الفكري والتنظيمي والتاريخي. كتب عنه المفكر العربي هادي العلوي يقول: "وعبد الخالق محجوب أقل أدلجة من غيره، لأن الغالب عليه كان وعي العصر متماهيا في قلب برولتاري ذي خصوصية سودانية... وكان عبد الخالق محجوب شيوعي الوعي أكثر مما هو شيوعي الإيمان. ولولا أن الإمبريالية وعملاءها الناطقين بالعربية لم تنصب له ذلك الكمين الغادر بين لندن وطرابلس والخرطوم، لكنا اليوم نلتف حول جمهورية نادرة المثال في منطقتنا. (مجلة الحرية 29\8\1991). وكانت السلطة والعناصر المؤيدة لها تدرك ذلك الثقل، فاستهدفوه باستمرار: اعتقلوه ونفوه، ثم اعتقلوه مرة ثانية، ثم اعتقلوه مرة ثالثة وأعدموه، فالوقوف عند مساهمته له مايبرره خصوصا وأنها آخر وقفة له في تجمع حزبي. أما الفئات التي وقفت ضده فقد اندثروا في رحى الصراع الطبقي وكنسهم التاريخ في ترابه.
قال عبد الخالق إن الحزب كان يتحول بالتدريج في مجري تاريخه الطويل إلى الأيديولوجية الشيوعية خلال الصراع ضد أفكار الفئات التي تشترك معه في نقطة أو أكثر في المراحل المختلفة للثورة السودانية. ويواجه الحزب اليوم اتجاها يمينيا شمل قضايا الاستراتيجية والتكتيك، ووصل مستوى تصفية الحزب ودوره في المجتمع. وقد غذت هذا الاتجاه اليميني المظاهر السلبية بعد دحر ثورة أكتوبر، واتسع نطاقه بعد 25 مايو. ويقول إن نشاط الحزب الشيوعي مع الفئات الأخرى لا يعني التخلي عن أيديولوجية الطبقة العاملة وتدريب طلائع الجماهير الكادحة على أسس الماركسية. لذلك يطرح الحزب قضايا النضال السياسي والتحالف ضد أعداء الثورة، ويوضح في الوقت الفوارق في الجبهة الأيديولوجية. أما الاتجاه اليميني فقد اهتم منذ البداية بقدرات ذلك القسم من البرجوازية الصغيرة التي استلمت السلطة، عازلا تلك القدرات عن الخط الحقيقي للطبقة العاملة والجماهير المتحالفة معها. والمطروح الآن هو حماية الثورة في وجه المحيط المتلاطم الأمواج وليس السفسطة حول إمكانيات مرتقبة للنشاط الثوري المستقل للفئات المتقدمة من البرجوازية الصغيرة. ويكمن خطر الاتجاه اليميني في وجوده قريبا من السلطة، وفي طرحه باسم الماركسية لمفاهيم ومبررات لسلبيات البرجوازية الصغيرة التقدمية. ويتفاقم هذا الوضع بتدخل تلك العناصر من السلطة في عملية الصراع الداخلي. وذكر عبد الخالق بعض مواقف الاتجاه اليميني من نقد النظام، أهمها رفضه الدفاع عن الحقوق الديمقراطية للشعب في موضوع الأمر الجمهوري الرابع. وينتهي عبد الخالق قائلا: "نحن كشيوعيين لا نقبل نظرية الفئة التي تقبض على السلطة ثم بعد ذلك ترجع إلى الجماهير. في اعتقادي أن هذا موقف أيديولوجي ثابت. وقد تطورت الشيوعية كعلم في الصراع ضد هذه النظرية.
ثم طرحت على المؤتمر القرارات للتصويت عليها. وفاز مشروع القرار المقدم من عبد الخالق بأغلبية 69 ضد 15. ومن ضمن ما اشتملت عليه القرارات الآتي: يتحالف الحزب مع السلطة ويدعمها في وجه الرجعية والاستعمار – يناضل بثبات لنشر أهداف الثورة بين الجماهير ويدفع نشاطها لتحقيق حكومة الجبهة الوطنية الديمقراطية – يدعم إيجابيات السلطة ويناضل ضد سلبياتها التي تحول دون وضع أدوات الثورة في يد الجماهير. ودعا المؤتمر اللجنة المركزية للتحضير للمؤتمر الخامس.
وبعد انتهاء المؤتمر مباشرة بدأ بعض أعضاء اللجنة المركزية اتصالات جانبية، وفي 21 سبتمبر صدر البيان الذي وقع عليه 12 من أعضاء اللجنة المركزية. وصدر بيان آخر وقع عليه حوالي 50 من كادر الحزب. فكان ذلك انقساما واضح القسمات والمعالم. فاجتمعت اللجنة المركزية في 25 سبتمبر وأصدرت بيانا مفصلا ناقشت فيه بيان الانقسام. وقالت إن الصراع ليس بين من يؤيد النظام ومن يعارضه، بل بين تأييد أجوف وتأييد يستهدف إنجاز مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية وواصلت العناصر المنقسمة نشاطها فقررت اللجنة المركزية فصلهم.
وكان أثر الانقسام على الحزب كبيرا. لخصته سكرتارية اللجنة المركزية عام 1996 قائلة: خرج الحزب مرهقا من معركة الانقسام ومواقعه وكوادره مكشوفون أمام السلطة بعد أن سلمها الانقساميون كل أسراره. وأدى الانقسام دوره المرسوم سلفا من إضعاف الحزب وشل حركته وسط الجماهير، ولكنه فشل فشلا ماحقا في تصفية الحزب.
وفي أكتوبر أصدرت اللجنة المركزية بيانا حول الاتحاد الثلاثي الذي وقعه السادات والقذافي ونميري. وانتقدت ذلك الاتحاد ونبهت إلى خطر جهاز الأمن المصري على حركة الثورة في السودان. وكان البيان تعبيرا عن الموقف المستقل للحزب الشيوعي. فوجهت السلطة ضربتها للحزب.
وفي 16 نوفمبر وقع الانقلاب الذي أقصى بابكر النور وفاروق حمد الله وهاشم العطا من مجلس قيادة الثورة. واعتقل عبد الخالق في نفس اليوم، واقتيد إلى القيادة العامة، حيث وجد نفسه أمام اجتماع لمجلس الثورة أشبه بالمحكمة العسكرية برئاسة نميري الذي وجه لعبد الخالق قائمة اتهامات شملت معارضة ثورة مايو ووضع العراقيل في طريقها قبل وبعد انتصارها، ومعارضة ضرب الجزيرة أبا، ومعارضة التأميم والمصادرة، ومعارضة ميثاق طرابلس، ومعارضة الأمر الجمهوري الرابع. ثم قال له قرر مجلس الثورة اعتقاله وإنه لن يرى النور بعد اليوم. وتدخل مأمون عوض أبوزيد وأبو القاسم محمد إبراهيم بحديث مبتذل، فزجر بعضه وتجاهل بعضه الآخر.
وهكذا انفتح الطريق لانقلاب 19 يوليو وهذا موضوع لحديث آخر. ولعله قد أتضح من المقالات السابقة العلاقة المعقدة بين الحزب الشيوعي وانقلاب 25 مايو، وكانت علائقه جد معقدة ومتشابكة، وليست بالسذاجة التي تصورها بعض الأقلام التي تنبش في نفايات الأحداث مثل الكلاب الضالة. فهؤلاء الكتاب ينتمون إلى فئة الزواحف والعياذ بالله.
د/عبد الهادي إبراهيم- عدد الرسائل : 53
الإسم : : dozna.jeeran.com
تاريخ التسجيل : 05/08/2007
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى